مايكل هوجز: الكلاشنيكوف سيرة مخضّبة بالدم


خليل صويلح*

أتته فكرة اختراع سلاح يقهر الفاشيين إثر إصابته في معركة ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية (1941)، وإذ ببندقيته تُستخدم لاحقاً لدى نحو 40 جيشاً في العالم. رحلة البندقية الشهيرة التي أضحت أيقونة لثورات العالم الثالث، يرويها لنا الصحافي البريطاني في «بندقية الكلاشنيكوف» الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية عن «دار نون» (رأس الخيمة)

قبل وفاته بقليل، كانت تتنازعه مشاعر متناقضة، هي مزيج من الندم وعذاب الضمير والعزلة. هل كان اختراعه لبندقية AK-47 هو السبب في مقتل ملايين البشر بسلاحه؟ حين ابتكر ميخائيل كلاشنيكوف (1919- 2013) تلك البندقية السحريّة (1947)، لم يخطر في باله أنها ستكون السلاح الأكثر شعبية في المناطق الملتهبة من العالم. «كان من المتوقّع أن نعثر على بندقية الـAK-47 في كومة الخردة على مزبلة التاريخ» وفقاً لما يقوله مايكل هوجز في كتابه «بندقية الكلاشنيكوف» الصادر عام 2007 الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار نون – رأس الخيمة ـ ترجمة حربي عبدالله ومحمد مصطفى مقداد). لكن ما حدث فعلاً أنّ هذه البندقية انتقلت في رحلتها من حروب التحرير إلى حروب العصابات، في تجوال جغرافي شاسع، امتد من فيتنام والسودان وفلسطين، إلى أفغانستان والصومال والعراق وأميركا.

خلافاً لما هو متعارف عليه، لم يحصل الجنرال السوفياتي على براءة اختراع أو أي تعويض يليق بعبقريته، بل حصد كومة من الأوسمة الثقيلة والميداليات، وراتباً تقاعدياً متواضعاً (نحو 300 دولار). لو لم يستثمر رجل أعمال بريطاني شهرته، قبل رحيله بسنواتٍ قليلة في إطلاق صنف من الفودكا الروسية، وتصديرها إلى أوروبا، مدموغة باسمه، لمات شبه معدم. وكان على الجنرال بكامل أوسمته، بما فيها وسام لينين، أن يحضر حفلة إطلاق هذا المشروب في لندن، في أغرب خدعة تسويقية بين الفودكا والبندقية. هكذا قام الصحافي البريطاني باقتفاء أثر هذه البندقية في معظم مناطق النزاع في العالم، كما قابل مخترعها، في موسكو، وأنصت إلى مواجعه «كيف لي أن أدرك كم سيستمر هذا السلاح أو ماذا سيفعل بالعالم؟ كانت هذه البندقية طفلي المدلّل في يومٍ ما، لكنها خرجت عن السيطرة».
أتته فكرة اختراع سلاح يقهر الفاشيين، خلال وجوده في أحد المستشفيات الروسية، إثر إصابته في معركة ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية (1941)، إذا ببندقيته تُستخدم لاحقاً لدى نحو 40 جيشاً في العالم. لقد أضحت أيقونة لثورات العالم الثالث، لتنتهي بين يدي أسامة بن لادن وهو يدلي بأحد تصريحاته النارية ضد أميركا، متبنّياً هجمات 9/11/ على الولايات المتحدة. المفارقة أن تلك البندقية عبرت الحدود لاحقاً، لتحطّ رحالها بين أيدي مجاهدي أفغانستان لمقاتلة جنود الوطن الأم لبندقية كلاشنيكوف. وبانهيار الاتحاد السوفياتي، تقاسم شركاء الأمس مخازن الأسلحة في حروب ضارية بين القوميات المتنازعة.
أينما تجد الكلاشنيكوف إذاً، ستجد صورة للإرهاب، ورهائن مفزوعين، ومجازر محليّة، وإعدامات ميدانية.

لعل هذا ما أصاب مخترعها بالاضطراب، وطلب المغفرة والتوبة، في وثيقة أودعها لدى بطريرك كنيسة موسكو الأرثوذكسية، قبل موته بأشهر، يفصح فيها عن «ألم روحي لا يطاق»، ويتساءل ما إذا كان مسؤولاً عن موت آلاف البشر الذين قُتلوا بالسلاح الذي اخترعه؟ أما مايكل هوجز، فيعترف بأنه لم يستطع تغطية كل الصراعات التي يُستعمل فيها هذا السلاح، وإلا تطلّبت مهمته تحرير أكثر من مجلّد. ويشير إلى أن المرّة الأولى التي شاهد فيها هذه البندقية كانت على يد مسلح في إحدى الميليشيات اللبنانية في الجنوب اللبناني (1982)، وهو يلوّح بسلاحه عالياً، داخل شاحنة مسرعة، غير عابئ بالانفجارات من حوله. وسوف تستولي القوات الإسرائيلية في غزوها لبنان، في ذلك العام، على آلاف من بنادق الكلاشنيكوف الفلسطينية، كذلك ستجد هذه البنادق طريقها عبر المخابرات الأميركية إلى أفغانستان. الاختبار الكبير لهذه البندقية الفذّة حدث في فيتنام أولاً، إذ زوّدت الصين الشيوعية فيتنام الشمالية ببنادق كلاشنيكوف (1963). أما الجيش الأميركي الذي غرق في مستنقع فيتنام، فكان يستعمل بندقية M16 التي تبيّن أنها أقل دقة في التصويب، ما جعل الفيتناميين يحققون انتصارات واضحة بقوة «السلاح المضاد للامبريالية». هكذا عبّدت فيتنام الطريق لبندقية الكلاشنيكوف كي تكون «أيقونة التحرير»، ذلك أن الوقائع في أمكنة أخرى أثبتت مجدّداً سطوة هذا السلاح. حادثة ميونخ التي قامت بها «منظمة أيلول الأسود» الفلسطينية خلال الألعاب الأولمبية (1972)، وانتهت بحجز تسع رهائن من الفريق الإسرائيلي، نموذج آخر في إعلاء شأن هذه البندقية. كان أعضاء المنظمة الفلسطينية يرفعون بأيديهم بنادق الكلاشنيكوف، فيما ظهرت في صحف اليوم التالي صورة خالد جواد، وهو أحد المسلحين الفلسطينيين، مقتولاً برصاصة ألمانية، وبجانبه بندقية كلاشنيكوف. البندقية التي سترافق الفدائيين الفلسطينيين في انتصاراتهم وهزائمهم وصورهم التذكارية. يلجأ الصحافي البريطاني هنا إلى أرشيف وذاكرة المصوّر الفرنسي بيار بولان الذي هجر مهنة تصوير عارضات الأزياء، متفرّغاً لأرشفة جوانب من حياة المقاتلين الفلسطينيين. بالطبع كانت معظم الصور التي التقطها لمقاتلين يحملون بنادق الكلاشنيكوف، خصوصاً أنه خبر عن كثب أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2001)، وأحداث مخيم جنين، إذ كان يقطن غرفة في بيت عند التخوم الشرقية لمدينة رام الله، «في الليل يجلس بيار ليدخّن، وقد جافى عينيه النوم، ويقوم بتعليق الصور، متأمّلاً شكل بندقية الكلاشنيكوف. كانت الخطوط المنحنية يتخذها شكل مشط الذخيرة والانحناءات الأنثوية تقريباً لمقابض اليد الخشبية متناسقة الأجزاء على نحوٍ مدهش». في ثمانينيات القرن المنصرم فقدت الكلاشنيكوف صورتها الناصعة، بظهور «الجندي الطفل»، خصوصاً، في أفريقيا، القارة التي شكّلت نموذجاً لاستخدام الأطفال كمقاتلين في حرب العصابات، نظراً إلى وجود الملايين من هذه البندقية، أو ما يمكن تسميته «مجتمع الكلاشنيكوف». هناك مشهد آخر، من الفيليبين هذه المرّة. في معسكر للجهاد من أجل الحرب المقدّسة، لا بد من درسٍ أساسي هو «التدريب على الكلاشنيكوف». هذا الدرس تتقاسمه كل المعسكرات الجهادية المتشابهة، من الشرق الأقصى مروراً بباكستان إلى أفغانستان والعراق، ذلك أن «ثقافة الكلاشنيكوف» باتت ماركة عالمية مسجّلة، أسهم بن لادن في تعميمها عبر تسجيلاته المصوّرة، المثيرة لشهية المحطات التلفزيونية ووكالات الأنباء العالمية، وكأن التدريب على هذه البندقية قد أصبح «جواز المرور بالنسبة إلى أي جهادي محتمل»، أقله ما يؤكده خطيب أحد المساجد في لندن «كان الإسلام قد انتشر بالسيف. اليوم سينتشر بالكلاشنيكوف»، كذلك كان ينصح الأمهات المسلمات بشراء ألعاب لأطفالهن على شكل بنادق ليكونوا مستعدين لحمل الكلاشنيكوف عندما يصبحون رجالاً، مطمئناً جمهوره بوعود بالجنة، وبصحبة اثنين وسبعين حورية.
رحلة الكلاشنيكوف إلى العراق بدأت منذ ستينيات القرن العشرين، كمحصّلة لتحالف السلطة العراقية مع المعسكر السوفياتي. وما إن استولى صدّام حسين على السلطة حتى حوّل البلاد إلى مخزن للأسلحة، وصنّع نسخته من الكلاشنيكوف، وبعد الغزو الأميركي للعراق، نهب رجال العشائر محتويات مخازن الأسلحة، وصار الكلاشنيكوف سلاحاً فردياً متاحاً لكل من يرغب. يسأل الجنرال الصحافي عن رأي الجنود الأميركيين في أداء بندقيته في العراق؟ يجيبه بأنهم مدهوشون من قدرتها على مقاومة الرمل والتراب. يبتسم الجنرال ثم يقول «لقد أكملت الحياة دورتها إذاً، وقد سقطت بندقية M16 قبل بندقية الـAK-47 بزمنٍ طويل». ماذا لو شهد ميخائيل كلاشنيكوف جرائم بندقيته في العراق وسوريا وليبيا اليوم؟ لا نظنّ أن زيارة جديدة إلى الكنيسة لطلب المغفرة تكفي.


* الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *