الخبز الساخن


*ستيفانو بيني

عندما رأيت لوحة للرسام مونيه رأي العين لأول مرة، ذُهلت. تساءلت ساعتها: وما الذي يؤثر على وجداني أمام لوحات مثل الخشخاش أو العقعق أو باقة من الزنابق. ثم فهمت. لم يكنْ الضوء، أو اللون، أو ضربات الفرشاة، هي وحدها التي تجعلني أشعر أنها حية. وإنما لأن لهذه اللوحات رائحة. كنت بالفعل أَشمّ رائحة الخشخاش، في الثلج، وفي ماء البحيرة. والفنان الكبير هو الذي يمكنه أن يُنجز هذه المعجزات.

أسأل نفسي: ما هي الروائح التي لا أنساها في حياتي؟ روائح الأشياء، الحب، البلاد. أود أن أذكر منها اثنتين: أجمل رائحة وأقبح رائحة. 
في الجبل، حيث ولدت، كانت هناك عادة الاستخدام المشترك للفرن. كانت كل عائلات القرية تجتمع مرة واحدة في الأسبوع على الأقلّ أمام فرن حجري كبير. يشعلون النار ويخبزون الخبز والبسكويت والكعك، ويجففون الطماطم والفواكه.
كنت أصحو في الصباح الباكر على رائحة لن أنساها ما حييت. رائحة الخبز في الفرن وهو يملأ الهواء في كل مكان. كنت أتشممها أنا تلك الرائحة، وكانت تشمّها الكلاب والطيور، وربما أيضاً الذئاب في الغابة. كانت رائحة العيد والوفرة. على الرغم من أن الطعام كان بسيطاً ومقتصداً، إلا أنه كان بمثابة تعويذة ضد كل فقر وعوز وبؤس. ولأنهم يخبزونه معاً، ويشاركون في ذلك الطقس، فقد كان شهادة على الجيرة والحياة المشتركة. والواجبات كانت مُقسّمة، فعلى الرجال إشعال النار وجلب الخشب، أما العجن والخبز فهما مسؤولية المرأة. أمان نحن الأطفال فقد كنا نتلهف لهدية من البسكويت، وكانت الفلاحات يتبادلن الوصفات، وحول الفرن كانت العجائز يجلسن ويراقبن نوعية الطحين، والخبز، وحتى الاختلاف في مذاق الخبز عند استخدام نوع مختلف من الخشب.
كان الفرن يعمل طوال اليوم ليخرج لنا من الطعام ما يكفي لإسعاد موائدنا طيلة الأسبوع التالي. لم يكن الفرن يستريح، لا في حرِّ الصيف القائظ ولا في برد الشتاء القارس. وكنا نتحلّق حوله متأهبين للمساعدة ومتشوقين للمعرفة. إمساك رغيف ساخن وتشممه وأنا في طريقي عائداً إلى البيت كان بالنسبة لي لحظة من لحظات السعادة. 
واليوم ما زلت أشمّ، في المدن أو في بعض القرى الصغيرة، رائحة لطيفة من المخابز ومحلات البيتزا. ولكن ذاكرتي عن تلك الرائحة أكثر قوة، مما يجعلني أعتقد (أو ربما هو كذلك حقاً) أنه لا يوجد شيء يضاهي السحر الهائل لتلك الرائحة.
لقد دمرت الطرق السريعة والانهيارات الأرضية وتغوّل بناء المساكن الجبل الذي عشت فيه طفولتي. ومع المنازل التي اختفت اختفى الفرن أيضا. 
وعندما عدت إلى هناك بعد سنوات، ألفيت المكان وقد تحوّل إلى غابة من العليق وفروع الأشجار، حتى بات من الصعب عليّ أن أتعرف على بعض الأطلال، ومن المؤكد أنني لم أكنْ أتوقع أن أعثر على الرائحة نفسها. ولكنني توقعت على الأقلّ أن أستعيد رائحة الغابة، أو العشب.
بدلاً من ذلك شممت رائحة العطن، كأنه زفير رهيب يحمله الهواء . كانت الرائحة تأتي من النهر المُتدفّق عند سفح الجبل. دمروا النهر أيضاً، جرفوا قاعه وحملوا حصاه لرصف الطرق، وأصبح حوضه مقلب نفايات، وسكبت فيه المصانع أطناناً من مياه صرفها الملوثة. 
مات النهر. يهبط إلى الوادي ببطء نتن الرائحة، وبعد أن كانت مياهه ذات يوم صافية رائقة أضحت اليوم صفراء. كانت الرائحة تنبعت من النفايات الكيميائية والوحل من موت الطبيعة.
باسم التقدّم أحرزنا الاختراعات العظيمة والنبيلة. ولكننا أيضاً ارتكبنا جرائم تدمير غبي غير قابل للإصلاح. بالتأكيد كانت هناك حاجة لطريق سريع في تلك المنطقة. ولكن لم تكنْ هناك حاجة لتدمير أميال وأميال من الطبيعة والحقول الخصبة لا لشيء إلا لإشباع نهم مقاولي البناء وجشع الطامعين في أموال الدولة نظير مصادرة أراضيهم للمصلحة العامة. ولم تكنْ هناك حاجة لتدمير الغابات من أجل بناء مصانع للسموم دون أي رقابة.
وهكذا تَمّ اغتيال منطقة من أجمل المناطق في إيطاليا. لم تنجُ إلا تلك القطعة من الغابة، في قمة الجبل، حيث لا يزال يعيش بعض السكان. 
تلك الرائحة السحريّة للخبز هي رائحة الحضارة الزراعية التي لم تعدْ موجودة في بلدنا. أستطيع أن أقبل هذا التحوّل، ولكنني لن أتراجع عن الاعتقاد بأننا فقدنا شيئاً فريداً، كان يمكننا الحفاظ عليه. 
رائحة الخبز الساخن، الذي كنا نساهم كلنا معاً في إعداده، تبقى عندي ذكرى عِزّةِ الفقر الذي يتقاسمه الجميع ويتضامنون في ظلّه. 
أما رائحة الماء الميت والسموم تلك فهي رائحة ثروة الجشع التعيسة المدمرة. 
نعم، نحن بحاجة إلى التقدّم والابتكار، ولكن يجب أن تكون لدينا الشجاعة أيضاً لأن نتوقّف ونحترم أفضل ما لدينا. إن التقدّم، كما يقول اينشتاين، لا يعني فقط التقدّم للأمام، ولكنه يعني أحياناً التوقّف والعودة للانطلاق، وأحياناً للتراجع عن خطواتنا. 
ربما لن أشمّ تلك الرائحة الرائعة بعد الآن. ولكنني أستطيع أن أتذكرها وأحكي لكم عنها، فربما قد عرفتموها أنتم أيضاً. وأستطيع أن أقول بصوت عالٍ إننا في أجزاء كثيرة من العالم نحتاج لأن نشمّ تلك الرائحة، ولأن نبني أفراناً وآباراً ونستخدمها معاً. أما رائحة موت الطبيعة فلن تُفيد أحداً، إلا المدمرين الجشعين.
_____
*الدوحة الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *