*سامر سليمان
من بين الأعمدة المتهالكة والعــروق الخشبية المهدمة والأحجار المتــــناثرة هنا وهناك، تصدح موسيقى لم يقـــهرها الزمن كما قهر جدران البيت العتيق الذي تلاشت ملامحه وسط تجــاعيد الإهمال والفقر، حيث المنزل الكائن في حي كوم الدكة الأثري، أحد أقدم أحياء الإسكندرية، الذي شهد مولد فنان الشعب سيد درويش.
اختفى الجسد ولم يتبق من المنزل إلا أطلال، بيد أن ألحان درويش ما زالت خالدة تحتفي بها آذانٌ وعقـــول وقلوب في هذا التوقيت كل سنة. وقد اعتــادت أوساط ثقافية وفنية عربية، خصوصاً في مصر والمغرب العربي، الاحتفال بذكراه والإشادة بعبقريته ودوره في تغيير قالب الأغنية العربية.
وفي هذا السياق، أقامت مؤسسة «دروب» للثقافة والفنون بالتعاون مع مركز الحرية للإبداع وجمعية سِكّة لتنمية المجتمع، مهرجان «كوم الدكة حينا» في مسقط رأس الفنان، قرب منزله في كوم الدكة (الذي لم يبق منه إلا حائط واحد صامد)، وتضمن عدداً كبيراً من النشاطات على مدار يومين، بدأت بمسيرة كشفية للأطفال للتعريف بطفولة سيد درويش وموهبته الفطرية وكيف كانت بداياته الموسيقية.
ويؤكد القائمون على المهرجان اهتمامهم بدعوة الجمهور في هذه المنطقة الشعبية للمشاهدة والتأمل والتفكير، والنظر في كيفية تعامل الفنانين مع المجتمع ومشاركة الناس هواجسهم وانتقاداتهم وأهواءهم وتعبيرهم عن القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، لافتين إلى أهمية تعريف الجيل الجديد بإبداعات عمــالقة الزمن الجميل، وهو ما تجلى في العديد من الفعاليات التي وُجّهت فــي شكل مباشر إلى الشباب والصغار.
ومن الفعاليات التي سحرت الصغار وجذبت ضحكات الكبار، العرض الذي قدمته فرقة «هسهس كلاون» لأطفال المنطقـة لرفع الوعي والتعـــريف بأهميـــة سيــد درويش بشكل مبتكر ومبسط. وحاز العرض الذي قدمه فنانو التنورة مـن «فـــرقة الدراويش» بقيادة السيد مرسي على إعـجـــاب واسع، بفضل موسيقى المزمار وعرض الحــصـــان وملابـــس الراقصين الفضفاضة ودقـــات أقدامــهم المتماشية مع إيقاع الموسيقى.
وقدم فريق «ابن البلد» بقيادة محمد حسني مجموعة منتقاة من أغنيات الفنان الراحل، منها «أنا مصري»، «عشاق النبي»، «يا ناس أنا مت في حب»، «أهو ده اللي صار»، «زوروني». وتضمنت الاحتفالية أمسية شعرية استضافتها فرقة العبور للموسيقى العربية، في حين قدمت فرقة مصطفى كامل للموسيقى العربية منوعات لفنان الشعب، منها «الحلوة دي»، يامحاي نور»، «محسوبكو انداس»، «ياهادي»، ونشيد «بلادي بلادي».
وأقيمت مجموعة من الورش الفنية في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة والغرافيتي، وفي الصناعات اليدوية لسيدات المنطقة قدمتها مؤسسة «دروب».
سيد درويش مجدد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والعالم العربي، ولد في 24 آذار (مارس) 1892. وهو أول من أدخل الغناء البوليفوني في الموسيقى العربية. وبلغ إنتاجه الفني من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحاً ومئة طقطوقة، فضلاً عن 30 رواية مسرحية وأوبريت.
توفي والده وهو صغير ما دفعه للعمل مبكراً، فترك الدراسة. وفي الشارع اكتشف موهبته الموسيقية، مستلهماً أغانيه من أصوات الباعة الجائلين والعمال البسطاء.
في أيلول (سبتمبر) 1923 سافر إلى الإسكندرية ليكون في استقبال سعد زغلول الزعيم الوطني العائد من المنفى، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة في مساء 14 أيلول (سبتمبر) ومات في بيته عن عمر يناهز 31 سنة. ولم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت في العصر الحديث، وشيعت جنازته في شكل متواضع بمشاركة نفر قليل جداً من أهله وأصدقائه.
_______
*الحياة
_______
*الحياة