*بروين حبيب
لم يكن عمر الخيام يعرف أن كل جهوده العلمية ستذهب هباء مع مرور التاريخ، وأنّ هوايته في كتابة شذرات شعرية ستصبح تهمته الأبدية، والصفة الأولى للتعريف به.
كان الرّجل عبقري زمانه في علم الرياضيات والفلك، ولكن كتبه أحرقت كلها، لأن العلم لم يكن مهما لدى مشايخ المسلمين آنذاك، ولا عند أمرائهم، تماما كما هو الوضع اليوم. وقد كان من السهل أن تلفق له تهمة الشعر مع بعض فتاوى التكفير ليصبح الرجل منبوذا في زمنه، وفي أزمان أخرى متفرقة عبر تاريخنا المجيد. ذلك أن الشعر في المفهوم القديم كلام يصل الآذان، ويمكن تأويل محتواه وتحويله إلى مقصلة لصاحبه، لكن العلم من الصعب تقريبه للعقول الخاملة على مدى كل هذه الأزمان.
الفلكي البارع عمر الخيام، قام «مؤمنو» عصره بإتلاف نتاجه العلمي، ومات الرّجل من قهره وهو يسجد سجدتين لله في آخر عمره. واليوم نتداول رباعياته ونتغنى بها أو نستدل بها على «خرفه» وقلّة إيمانه لنقتله على مدى سبعة قرون أضعاف موتته الهنيّة. ولكنّه يبقى حقيقة مؤلمة تختصر أسباب تخلّفنا عن ركب الحضارات في العالم، فلحد اليوم ما زلنا نمشي على القاعدة نفسها، وإن كان بطرق مختلفة، كأن نُصَدِّر كل علمائنا للخارج ليستفاد منهم هناك، ونكتفي بإغراق يومياتنا بفتاوى الموت، مرة تطال أهل الفن، ومرة أهل الشعر، ومرة أهل السينما، وغيرهم من مبدعين، ونُجَنّد المجتمع كلّه لرجم هذه الفئات المتميزة بتأويل نتاجهم. وإن لم نجد ما نرجمه نبسط المجتمع نفسه أمامنا كخريطة بشرية ونختار فئة تصلح للإبادة.
حروبنا اليوم نتيجة حتمية لأن رؤوسنا دائما محنية نحو الأرض تراقب تلك الخريطة وتبحث عن ضحايا لحماية إيماننا من التّفتت.
ثقل رؤوسنا بالمفاهيم الخاطئة والأحقاد التي لا تنتهي، أصبح عائقا لرفعها نحو السماء ورؤية سحر الكون وجماله. وهذه البلادة انعكست حتى في نتاجنا المكتوب، والمسموع والمصوّر. نحن شعوب لا ترى أبعد من أنوفها، لهذا ندور في أفلاك صغيرة جدا، لا تتجاوز الشارع والمقهى، والبيت وغرف النوم، والمطبخ والحمام، والنافذة أو الشرفة المطلّة على الشارع مجدّدًا. حلقة بائسة طوّقت مصائرنا، فيما الكون يتمدد في كل لحظة من حياتنا ويتسع.
في عالمنا قمر واحد، ولفرادته في منظورنا الضيق فإننا نشبه المرأة التي نحب به، وأطفالنا الحلوين به أيضا… فيما أقمار وكواكب ومجرّات تولد في كل لحظة لا نعيرها اهتماما وأخرى تموت وتنطفئ لا تعنينا في شيء بتاتا. وعلى سيرة الموت والانطفاء هناك الفئة الظلامية من بشر يعيشون معنا، لا يفكرون سوى بنهاية الحياة، ويبشرون يوميا بعلامات القيامة، ومنها انتظارهم بشغف أن تشرق الشمس من مغربها، كما قالت بعض الكتب السحيقة في القدم، لا آن لهم.. لا حاضر ولا مستقبل سوى انتظار إطلالة الآخرة ليشمتوا في الذين لا يؤمنون.
حتى من نصفهم بعلماء الدين لا يتوقفون عند الآيات القرآنية التي يذكر فيها الله ملكوته الشاسع، وأفلاكه، وكواكبه، وشموسه، وأقماره ومعجزته الكونية التي لا نظير لها. شيخ واحد في عمر «الزّهو»، أطلّ علينا عبر إحدى الفضائيات الدينية مؤخرا، وشرح لنا بحكمة مفرطة أن الأرض مسطحة، وأنها لو كانت كروية لأمكننا أن نقفز من مكان عال جدا وهي تدور لنبلغ بسرعة أي مكان نريده. كان الأمر مدهشا وهو يشرح بثقة زائدة في النّفس كيف كذب علينا الأمريكان وصوروا أفلاما عمت بصيرتنا، تبين أنهم بلغوا القمر وصوروا الأرض مثل طابة ملوّنة وهي تسبح في فلك أزرق.
كذّب الرجل كل آيات الله التي تذكر معجزة الكون الذي تسبح فيه الكواكب والنجوم واعتمد ذكاءه الحاد وحكمته الخاصة ليخبر من حوله أن الأرض مسطحة. وطبعا لا مجال لانتقاده وانتقاد غيره، ما دامت كل قناة دينية اليوم يقف خلفها جناح مسلح، وجناح إعلامي مهمته الأولى تكفير الناس، وكل الأجنحة للأسف ترفرف في الاتجاه نفسه، وتعتّم أجواء الحياة من حولنا. الأرنب الذي اكتشفنا أنه ليس من الثدييات المستأنسة، بل هو حشرة، هو الآخر ظلمت سلالته كلها لأن شيخا قرر أنه من الحشرات، فحرّم أكل الأرنب، من دون الرجوع أصلا إلى جذور تحريم أكله في الديانة اليهودية وهي الديانة الوحيدة التي حرمته.
هناك فجوة كبيرة في التاريخ تجعلنا دوما نقف محتارين إلى أين نذهب، فجوة عميقة ابتلعت كمًّا هائلا من تراثنا العلمي وحوّلتنا إلى كائنات تتلمّس بيديها طريق الخلاص. وتتبع في هذه العتمة السميكة أي صوت يصل آذاننا. ولا يهم إن كان هذا الصوت، صوت البطل المخلص أو صوت الجحيم.
في خلال مسيرتنا الإنسانية صنعنا فجوات كثيرة، كنوع من المعالم لانتصاراتنا الوهمية، ولم ننتبه إلى أن كل فجوة ليست أكثر من قبر جماعي، دفن فيه رجال العلم الحقيقيون مع كل ما أنتجوه. كل قبر من هذه القبور، نقطة بداية مربكة للإنسان الجاهل الذي لا يختلف عن إنسان عهد الحجر، إذ للأسف لم ندرك أبدا أن التقدم نحو الأمام لا يعني ردم ما خلفنا، بل الاستفادة منه. لا شيء في داخلنا بعد كل هدنة مؤقتة مع الآخر، سوى مزيد من القلق والخوف. لم نبلغ مرحلة الهدنة مع الذات أبدا. ولا ربع الهدوء الذي تحدث عنه العبقري تشوانغ تسوحين قائلا «بإمكان الإنسان أن يسيطر على الكون كله حين يبلغ عقله مرحلة السكينة». تلك السكينة التي حتما لا تتوفر حيث تتوجه أنظارنا، بل في مكان آخر، أعلى من أقدامنا الغارقة في الوحل والدماء، وأعلى من قاماتنا.
والآن هل يمكننا أن نستلقي على سطوح بيوتنا كما كنّا نفعل ونحن أطفال، ونستسلم لمنظر السماء ليلا، وهي تلمع بزينتها، ونعدّ النجوم، وبعد أن ينهكنا التعب ننام، وحين نستيقظ مع الخيوط الأولى لليوم الجديد، تغمرنا سعادة لا تصفها لغة بسيطة لمن لم يعش التجربة. نبتسم للسماء ونتمنى لو أن شاشة الليل لا تتوقف عن عرضها… هل يمكننا فعل ذلك؟ لنفهم رحلة الخيام إلى ملكوت السماء، وكل ما خسرناه لأننا توقفنا عن النظر إلى السماء. هل يمكننا أن نسترجع تلك السكينة؟ تلك اللحظات الخارقة لاسترجاع طفولتنا وبراءتنا ونقائنا؟ هل يمكن لمخيلاتنا أن ترى بيتنا السماوي الأول، وتتخيّل الارتقاء والصعود الرّوحي إلى ملكوت الله؟ هل يمكن أن نتوقف عن تخيُّل الأشياء المريبة ومشاهدة التلفزيون ليوم واحد، وأخبار الموت والقتل؟ هل يمكننا أن نعيش لحظة مشابهة لكل أولئك الذين وجدوا سلامهم الداخلي حين رفعوا رؤوسهم إلى السماء؟
أراهن أننا نستطيع جميعا… والأمر ليس بالصعب، ليفرش كل منا سجادة على شرفته أو قرب نافذته، أو في حديقته، ويتمدّد ثم يطلق العنان لبصره ليتجوّل بين مكونات أعظم ما خلق الله. حينها فقط سنفهم كيف يجب أن نصنع قدرا جميلا لأنفسنا، لأن الرؤية عندنا ستصبح أوضح.
________
*القدس العربي