د. بلقيس الكركي*
ليست الشجاعة هذه الأيام أن تقول ما يستفزّ الأنظمة السياسية واضحةَ السلطة، بل أن تقول ما قد يستفزّ من نجحَتْ الأنظمة في غسل عواطفهم – لا أدمغتهم فقط – خدمةً لمصلحتها.
حين اهتز قبر فرويد قبل فترة بسبب ضجّة جماعيّة حول العالم، ظنّ – إذ اختلط عليه الأمر- أنّ «شارلي» من الكساسبة. أعجبته في البداية ما رآه حالةً وَصَفَها بالـ»تخنّث» الكونيّ في التعبير عن الغضب (لم تكن الحركة النسويّة حاضرة بقوّة لتعترض على الوصف): «أنا شارلي»، «كلّنا معاذ»، ووقفات وشموع وصلوات ونساء حزينات رقيقات انتقين من الحقائب والثياب ما يلائم دبّوس شارلي أو الكوفيّة الحمراء.
كان قد سئم أوروبا، فقرّر زيارتنا في ديارنا. فكّر بأن يقدّم طلباً لقضاء إجازة تفرغ علميّ في الجامعة الأردنيّة، لكنّه سمع أن عالِماً آخر كان قد حاول، وهو في أمريكا أن يتقدّم لقضاء الإجازة نفسها، لكنّ القسمَ المعنيّ رفض لعدم حاجته إليه، وعادت الجامعة وكرّمته بعد سنين من نوبل للكيمياء. وليس وحده على أيّ حال من كُرِّم بذلك الشيء الذي يُسمّى الدكتوراه الفخرية، ولا أمثاله ممّن قد يستحقون، بل بَشرٌ يملكون محض سلطة أو مال، ولا يعرفون أو يفقهون شيئاً إلا ما يحتاجونه للإبقاء على الاثنين.
هكذا استبعد فرويد الزيارة الأكاديميّة، وكان على وشك استبعاد الزيارة بأكملها، حين سمع عمّا واجهه صالح علماني على الحدود الأردنيّة، فأدرك أنّ مسألة التسهيلات ليست مضمونة لمجرّد أنّه فرويد، فالأمر سيحتاج واسطةَ رجل دولة مثقف، كما حدث مع مترجم ماركيز. لكنّه كان قد سمع عن وزير ثقافة سابق أصرّ على دعوة الأستاذ بيكاسو للأردن، فاحتار. خطرت بباله أيضاً مسألة يهوديّته، خاصّة أنّ موقفه المبّكر ضدّ الصهيونيّة تذبذب لاحقاً بسبب سلوك النازييّن، لكنّه اطمأن حين سمع بوادي عربة والتسهيلات المقدّمة لبني عمومته. ولأنّه كان يعرف ألا معيار واحداً يحكم سير الإجراءات في الأردن قدر المحسوبيّات، أرسل لي لكي أوسّط أبي عند وزير الداخلية أو أمينه العام (الكركيَّين مثله) من أجل تسريع إجراءات الموافقة الأمنيّة، فأتى هنا في زيارة خاطفة قبل أن يعود إلى قبره.
ربّما أراد امتحان خلوده، وقدرةَ بعض أفكاره على التفسير بعد ما يقارب مئة عام، خاصة أنّني أخبرته برأيي عن حاجة البلاد إلى علاج سريري صبور، سلطةً وشعباً ومثقفين، فالبعض منّا يبدو على شبَهٍ مع من يعادي في السلطة، وعلى حبٍّ أحياناً، أكثر مما يدرك ويعترف، وأكثر مما تقدر على وصفه عقدتا أوديب وستوكهولم، وآراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع عن علاقة الرغبة والمعرفة بالسلطة.
كانت رغبتي أن نتحدث كثيراً عن الأدب، لولا أنّ سوء مزاجي عكّر الاحتمال. لامَني على أنّني في كتابي لم أتطرّق إليه إلاّ بعيون دولوز والسؤال عمّا إذا كان المصنع هو استعارة أفضل للاوعي من المسرح، فقلت له إنّه كذلك لم ير المتنبّي إلاّ بعيون غوته. نقاشات مترفة وأنا حقّاً لا مزاج لي. نكدٌ وكدرٌ كمعظم الأردنيّين. سألني عن السبب، فقلت له إنّني أخشى الاختزال والاختراع، لكنّني بحاجة إلى الشكوى، من أجل صحّتي النفسيّة، فأنا لم أكتب حرفاً منذ مدّة. أخبرته أنّ بَشَر السلطة لم يعودوا حتّى أنداداً أذكياء يستحقّون العداء. يَصغرون حتّى عن الهجاء على رأي المتنبّي. سألني عمّا فات غوته أن يراه في الأخير، لكنّني سهوت، وشرحت: أنّهم يفعلون الشيء، ويدّعون عكسه في خطابهم، من غير أدنى إحساس بالتناقض. وبدأت بعدّ الأمثلة: من أكبر شعار في الدولة إلى الأصغر في المؤسسات إلى الأكثر تفصيلاً على مستوى الحياة الاجتماعية.
شكوت وردحت وأسهبت. مؤسّسة أكاديميّة أشبعتنا تنظيراً عن أحلامها في البحثيّة والعالميّة (بينما تكرّم وتبجّل قارون الجديد وماله العبقريّ واستثماراته العالميّة) وعطّلت إجازتي إلى هارفرد شهرين. استوقفني للنقاش حول النرجسيّة في العبارة الأخيرة، ولذّة دور الضحية، ومحفّزات الكتابة، فغيّرت الموضوع. دولة أشبعتنا مَنّاً بالحديث عن قيمة المواطن الإنسان، الذي يعرف جيّداً ألا قيمة له عند الدولة، عِلماً وعملاً وخلقاً، خارج إطار نفوذه وعائلته وماله وعلاقاته مع السلطة. وأنا أعرف ذلك جيّداً، لكثرة الأمور التي لا تسير بسلاسة في حياتي إلا لأسباب كهذه. هنا لن تكون لك قيمة إلا إذا أشبهت معاذ، الذي ذهب دمه من أجل ماذا يا سيجموند، سوى مصلحة السلطة التي زعم البعض أنّها استغلّته من أجل استعادة هيبتها التي كانت مهدّدة ممّا قبل زعيتر. مضى عام على رائد، وعجزت السلطة عن فعل أي شيء أمام إسرائيل، حتّى حربها المزعومة ضدّ «داعش» هي في حقيقتها محض تبعيّة للبوصلة الأمريكيّة. ألم يسمعوا قول الشاعر عنّا وأمريكا: «ولو أنّا على حجرٍ ذُبِحنا/ جرى الدّمَيان بالخبر اليقين»؟ دَمَيان يا سيجموند، لا واحد، ولم نشأ يوماً أن يُخلط دمٌ جنوبيّ من شرايين الهيّة والهبّة معهم، ولا شمالي ولا وسطيّ ولا غربي ولا عربيّ. دم معاذ يا عزيزي هو فيما تبقّى من رقبة دولة صمَّتْ الناس عن التفكير والتعبير متلاعِبة بفكرة الشهادة. كيف نكون شهداء في حرب نحن فيها حلفاء مع حرّاس غوانتانامو وأبو غريب؟ وفق أيّ فكرة أو مبدأ أو عقيدة؟ إنّ عجز الدولة السياسيّ يلازمه عجز فكري وأخلاقيّ ولغوي يأخذ شكل اللغو الذي لا ينتهي في شعاراتها المستحدثة. أمّا اللغو السلوكيّ فحدّث ولا حرج: لقد وصل الأمر بتلفزيون الدولة أن يوعز للمذيعة المخضرمة البلهاء بإهداء مكنسة كهربائية لوالدة معاذ في عيد الأمّ، كي تكتمل حفلة المهانة والتفاهة. والدا معاذ حفظا لنا جميعاً بعض ماء الوجه برفضهما الكريم لمنطق الدولة الأعوج في الفهم والسلوك، المنطق الذي يرى في مكنسة كهربائيّة تعويضاً لائقاً لأمّ أردنيّة عن دم ابنها. عجزٌ من فوقه عجز يتراكم كظلمات في بحر: «إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا». ومع ذلك تقول لنا السلطة أن نرفع رؤوسنا يا عزيزي سيجموند. أن. نرفع. رؤوسنا.
قال لي إنّني أتساءل عن بدهيات نفسيّة، فاعتقدته يقصد عقدة الخِصاء وما إلى ذلك من استعارات جنسيّة. لكنّه كان يقصدـ «آليّات الدفاع النفسيّ» التي وضع معالمها. الوصف الأساسيّ لهذه الآليّات، وفق إحدى الموسوعات بالعربيّة التي لا يهمّ السلطة تصفحّها كيلا تفضحها المعرفة: «محاولة مرضيّة وعصابيّة للتعامل مع الواقع، ونوع من الحلّ النفسيّ الاضطراري لتجنّب الصراعات بين الدوافع الداخليّة المتناقضة». من هذه الآليات الإنكار، والكبت، والتعويض، والأهمّ في هذا السياق: «التكوين العكسي»، الذي يبدو انه أكثر وسائل الدفاع قدرة على تأويل بعض المستويات في خطاب الدولة الأردنية مؤخراً. في التكوين العكسي تُضخَّم النزعة المعاكسة للنزعة الحقيقيّة، كالكاذب الذي يقسم كثيراً، وكلّنا مارس في حياته شيئاً من هذا ويعرف تماما الضعف والخوف، الذي يدفع بمثله إلى اللغة والسلوك. السلطة إذن متوترة، خائفة، بل مرعوبة، ومصابة بالعُصاب (ارفع رأسك.. ارفع رأسك .. ارفع رأسك… أنت أردني … أنت أردني … أنت أردني…) لعجزها عن التعامل مع الواقع الذي يهدّد ذاتها ووجودها: «أنا الدولة» إذن، وأنا المؤسسات، مضطرة إلى كلّ ما أتيح لها من وسائل الدفاع الفرويديّة من كبت وإنكار وتعويــــض وتكوين عكسي. تدّعي وتؤكد على الديمقراطــــيّة والحريّة وحريّة الصحافة كي تخفي استبدادها، والشفافية كي تخفــــي خبثهــــا ولفّها ودورانها. لماذا أنتِ إذن غاضبة طالما أنّك تفهمين؟ سألني فرويد. أليس «الشفاء» هو فقط من طريق المعرفة على طريقة ابن سينا؟
قلت له ببساطة: لأنّني لا أشعر بأنّني أنا المريضة أصلاً، بل هم، إلّا حين أشبههم، وهذا وارد. ولأنّني أحتاجهم؛ رزقاً وأوراقاً ثبوتيّة وقرباً ممّن وممّا أحبّ، كما أنّني أحبّ أهل البلاد حدّ المبالاة، لأنّ بعضهم ما يزال يملك من الأخلاق ما يرفع الرأس حقاً في عالم أنانيّ منفعيّ بغيض اطّرح أفضل ما في قيم البداوة بحجّة التحضّر، وأبقى على أسوأ ما في الثقافة العربيّة من إمكانيّات التخلّف والاستبداد. كما أنّ بي بشكل عام من التناقض في المشاعر ما لا يفسّره إلا شعر المتنبّي، الكائن الذي لا يتقن إلا الشعر والرحيل، والذي لم يداوه شيء كما لم يداوِ ابن الدمينة قبله. أخبرته كيف يعبّر المتنبّي عن كراهيته لأعراض التكوين العكسي، إذ كان يرى أنّ المرض أكثر احتمالاً منها: «وإنّي رأيتُ الضُرَّ أحسنَ منظراً/ وأهونَ من مرأى صغيرٍ به كِبرُ».
هكذا الشعار الجديد ببساطة: «صغير به كِبرُ». دُهش سيجموند، وفكّر بالمشابِه عند شكسبير، فأخبرته أنّ المقارنة سحرت الطيّب صالح قبله. أردته أن يركّز معي لا أبي الطيّب، لكنّي ضعفت، فأعدت القصيدة التي فيها البيت من أوّلها: «أطاعن خيلاً»، و«لا تحسبنَّ المجد»، و«تضريب أعناق الملوك»، و «فتى لا يضمّ القلب..». أنا مثله يا سيجموند، لا أكاد أرضى. ولست سعيدة لأنني سأسافر بعد أيام مهما كان اسم الجامعة. «وسوى الروم خلف ظهركَ رومٌ»، لكنني مضطرّة: «ولا أمسي لأهل البخلِ ضيفاً…»؛ «ذراني… ووجهي والهجيرَ بلا لِثام». ذُهل وذهل، وخفت أن يغمى عليه إذا ما أكملت القصيدة ودخلت في وصف الحمّى، فهو ضيف علينا في النهاية وأنا لا أريده أن يؤذى، ولو من الشعر. قال لي، وقد دخل في حمّى المتنبّي، إن شعراً مثل هذا ترفع به الإنسانية بأكملها رأسها، وإنّه يريد أن يتعلّم العربيّة، سريعاً سريعاً. استدركت وأردتُ أن لا تفوتَه الصورة الكاملة كي لا يبالغ ويقعَ في حبٍّ يُبنى على باطل، وشرحت له بالتفصيل علاقة المتنبي بالسلطة التي لم يركّز عليها غوته، فتحسّر على إهماله له قبل مئة عام، رغم أنّه اقتبس من أجل نظريته في النرجسية والحبّ عشرين سطراً من ديوان غوته الشرقيّ الغربي وتحديداً الحوار بين زليخة وحاتم (ذات الشاعر المفارقة لحاتم الطائي والطغرائي) في «كتاب زليخة»؛ الكتاب ذاته الذي يُذكر فيه المتنبّي على لسان حاتم: «بل أودّ أن أكون الفردوسيّ أو المتنبّي…». كيف فاته السطر؟ لو أنّه عرفه أكثر، قال فرويد، لأطلق على إحدى نظرياته اسمه، إلى جانب نرسيس وأوديب، وكان لفَهِم وأفهمنا الكثير. تجلّيت وقرأت له «حتّام نحن نساري النجمَ في الظُّلَمِ»، أكملت له بيتين فقط: «وما سُراه على خفّ ولا قَدمِ»، «ولا يحسُّ بأجفانٍ يُحسُّ بها/ فقدَ الرُّقادِ غريبٌ باتَ لم ينَمِ.» كدت أخبره كيف فسّر أبو العلاء «فقدَ»، المفعول به، لكنّ نجم المتنبّي كان أولى، وأعلى. رفع كلانا رأسه إلى السماء طويلا طويلاً وقال تجاوزاً يا إلهي، بسبب لغة المتنبّي التي لا تفهمها السلطة. فرويد يرفع رأسه في شوارع الأردن، لكن لأسباب أخرى. أخرى تماماً.
٭ كاتبة وأستاذة جامعية من الأردن
( عن القدس العربي )