عذابات العيش بين جنبات «فايسبوك»


*محمد موسى

في مُقاربة شخصية حميمية، تكشف الكاتبة والمخرجة البلجيكية المُقيمة في هولندا نيسكيا بيكس في فيلمها التسجيلي «ما وراء الجدران» الذي عُرض أخيراً على الشاشة الحكومية الهولندية الثانية، أزمتها المُتعددة الطبقات مع «فايسبوك» لأنه لم يعد لها ولغيرها مجرد موقع إلكتروني للتواصل الاجتماعي، بل هو أيضاً مرآة للذات ومُختبر نفسيّ، كما تحوّل جداره الشهير إلى ساحة صراع للشخصيات المضخَّمة وملجأ للذين يبحثون عن الحب والاعتراف والخلاص، في زمن يكثر فيه الأصدقاء الافتراضيون ويتناقص منه الأصدقاء الفعليون، عندما يتحول «لايك» إلى لمسة حنونة على الكتف و»التعليق» إلى تواصل نادر في حياة وحدتها لا تُطاق.

تُسجل الفنانة المثقفة بصدق كبير يوميات أزمتها مع «فايسبوك» ولفترة أشهر. يُعزز إخلاص هذا البوح التلفزيوني أنها صوّرت مشاهد كثيرة بنفسها، من دون وجود فريق تصوير ضخم، وهذا بدوره سيزيد حميمية هذا التحقيق. فهي تصور من غرفة نومها، ومن بيت عطلتها في إحدى جزر إسبانيا المشمسة، أحياناً مع ولدها الوحيد الذي حذف أمّه من صفحته على «فايسبوك» لأن وجوده يعقّد عالمه الافتراضي كما قال، فيما أضاف رفض الابن لأمّه إلى لبس علاقة هذه مع «فايسبوك».
لكن كيف وصل عدم الرضا وأحياناً الكره إلى علاقة كثر منا مع «فايسبوك». لا تعرف نيسكيا بيكس أن تجيب بكلمات حازمة، لكنها تبدي عدم رضاها الدائم عن نفسها عندما تَعلق في عوالم الموقع الافتراضي. هي لا تفهم مثلاً، لماذا أصبحت تُعير أهمية كبيرة لردود فعل ناس بالكاد تعرفهم، من الذين تحولوا في عصر «فايسبوك» إلى أصدقاء يطلعون على ما تكتب من تفاصيل أيامها. كما تتساءل في مواقع اخرى هل أدمنت الوجود على هذا الموقع؟ وما الذي ألَمَّ بحياتها الخاصة، حتى تَتَّكل على هذا النحو، وهي المرأة والأُمّ القوية، على مشاعر افتراضية؟
وعلى خلاف برامج وتحقيقيات تلفزيونية حاولت أن تتصدى لموضوعة «فايسبوك» عبر معالَجات عمومية وكوميدية، يغوص «ما وراء الجدران» في الذاتيّة، ويحاول أن يصل إلى أجوبة عبر تجربة نيسكيا بيكس نفسها، وتجارب بعض أصدقائها. كما يحاول أن يحقق في حياة جار لصاحبة الفيلم في الجزيرة الإسبانية، وهو يكاد يكون الوحيد من معارفها الذي لا يملك صفحة على «فايسبوك». هذا الجار ليس بعيداً فقط عن مواقع التواصل الاجتماعي، بل هو بعيد عن الإعلام والإنترنت في شكل عام. يعيش حياة الزاهدين في عالم تطبعه الطفرات التكنولوجية، ويكاد ينبذ الذين لا يتماشون مع صرعات العصر.
تعرقل تسجيل التجربة التلفزيونية حادثة غير متوقعة، ذلك إن نيسكيا بيكس تصاب بأزمة قلبية حادة، تلزمها المستشفى أياماً، وستجبرها على مراجعة عاجلة لحياتها. فإدمان «فايسبوك» هو من أعراض مشكلة أكبر، تحاول المخرجة عبر الفيلم أن تصل إلى جذورها، الأمر الذي يتطلب الكثير من الوقت. لكن بيكس القلقة بطبعها، تُقرر في النهاية إلغاء حسابها على «فايسبوك»، لتستعيد السيطرة على حياتها. علماً أنها ليست المرة الأولى التي تلغي فيها حسابها، وكانت تعود كل مرة إلى الموقع تحت ذرائع مُختلفة.
ما يؤكده الفيلم التسجيلي هذا ينسجم بخطوطه العريضة مع دراسات نفسيّة واجتماعية عن ظاهرة «فايسبوك»، لا تحمّل الموقع وحده مسؤولية عدم الرضا أو التعاسة. فالشاكون هؤلاء حملوا مشاكلهم وقلقهم وهواجسهم الخاصة إلى موقع التواصل الاجتماعي، والأخير ساعد على كشف هشاشة حياة مستخدميه ووضعها تحت عدسته المُكبرة. فالعلّة ليست في الموقع الإلكتروني وحده، كما أن المشاكل التي أبرزها «فايسبوك» معقدة ولا تنفع معها الحلول التبسيطية العمومية.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *