*عمّار المأمون
دمشق- هل قدر الكتّاب أن يتعرضوا إلى أسوأ ما في هذا العالم من تهميش وحيف واعتداء في حياتهم وحتى في مماتهم؟ سؤال نطرحه كلما مررنا بكاتب ترك أثرا لهذه الإنسانية، والذي غالبا ما يكافأ بأن يتمّ النيل منه حيا كان أم ميتا.
عبدالرحمن منيف روائي سعودي، كتب للعرب روائع تصدح بأصواتهم المهمشة في هذا العصر، تعرض للنفي من بلده السعودية ليظل دون جنسية، وتحتضنه دمشق التي أنهى فيها بقية حياته، هويته الحق ما يكتب، لكن هل قدر هذا الكاتب أن يظل تحت ثقل المعاناة والتصدّي له بالسوء حتى بعد وفاته؟
تساؤل بنكهة حزينة يثيره مؤخرا حدث الاعتداء على مخطوطاته ومكتبته بدمشق وتدميرها وتشويهها من قبل فاعلين معروفين، سطوا على تاريخ الرجل بغية المتاجرة به، وشوّهوا منه كل ما وقع تحت أيديهم بأبشع الطرق الممكنة.
“العرب” التقت سعاد قوادري زوجة الروائي عبدالرحمن منيف في منزله بدمشق، وكان لنا معها حديث عن تراثه والفاجعة التي طالت مكتبته ومخطوطاته.
تنقل الروائي عبدالرحمن منيف بين عدد من البلدان والدول العربية والأجنبية بعد أن سحبت منه الجنسية السعودية، لينتهي به المطاف في دمشق، حيث عاش فيها حتى وفاته. وبسبب خطأ ناتج عن طيب خاطر وتعاطف إنساني في هذه الظروف الصعبة بسوريا، تعرضت مكتبته وأوراقه للسرقة.
تراث روائي كبير كمنيف تعرض للتشويه في مدينة دمشق، المدينة التي لا يمتدّ فيها الأذى إلى الأحياء فحسب بل يصل الأمر إلى الموتى أيضا، فحتى قبر الروائي الراحل تعرض للسرقة والتشويه منذ عدة سنوات، والآن تفاقم الأمر ليشمل تراثه.
خيانة وسرقة
لطف ودماثة هائلة تغمرك بهما السيدة سعاد قوادري، زوجة الروائي الراحل عبدالرحمن منيف، حين تدخل لزيارتها. المنزل الكبير هو عبارة عن مشروع متحف للروائي الذي عاصر الكثير من الفنانين والمفكرين والكتاب من مختلف البلدان العربيّة، إذ يحوي تذكارات وأعمالا فنية كثيرة تجعله أقرب إلى رحلة في الذاكرة، إلا أن الفاجعة التي أصابت مكتبته ومخطوطاته وأوراقه، جعلت طيفين من الحزن والغضب يحضران في المكان وسط الكتب، التي تعدّ بالآلاف، فكأنها قد عبثت بها يد حاقدة غير آبهة بالنتائج، تقول قوادري “ارتكبت خطأ كبيرا، وسيبقى هذا الخطأ حاضرا ما حييت، تراث زوجي الذي أحب الجميع، وكان منزله ملتقى للكتاب والمثقفين، فإنه تعرض للعبث والتشويه بطريقة مريعة بسبب غيابي عنه ووضع ثقتي في من لا يستحقها”.
وتضيف عن ملابسات الحادثة “قمت باستضافة ابن لصديق العائلة سابقا حمزة برقاوي -أبوطارق- مع زوجته وأطفالهما في المنزل الواقع في حي المزة في مدينة دمشق”. الضيفان هما سامي برقاوي وزوجته رندة عبدالكريم وطفلاهما. ثمّ تعقب “عمل الاثنان على استباحة وخيانة الأمانة والتعاون مع الفاعل حمزة برقاوي وزوجته ماجدة شاكر، اللذين كانا يستهدفان المكتبة والأوراق الخاصة بتصميم كامل.
تسعة أشهر كانت كافية لتدمير معالم المكتبة والإجرام بحقها وحق أوراق صاحبها وتخطيطاته ويومياته، حتى أنهما وصلا إلى كتب وأوراق العائلة بأكملها، أعني كتبي وكتب أولادي جميعا بما فيها من تفاصيل وصور. كارثة بكل معنى الكلمة، والتي تشبه ما نراه بأعيننا هذه الأيام؛ الدخول إلى المكتبات المهمّة والمتاحف، ويفعل بها ما يفعل”.
بعد جولة في المنزل وأرجاء المكتبة يتضح التخطيط وعمق الرغبة في الامتلاك التي كانت تعشش في قلب الفاعل، إذ عمد إلى سرقة واستنساخ مكتبة غنية بكتبها القديمة، والتي تتجاوز الخمسة عشر ألف كتاب، بينها الموسوعات والقواميس الضخمة بالعربية وبلغات أخرى، والحوليات والدوريات، والتي يعود تاريخها إلى بداية القرن بما تحويه من تراث عربي أصيل، وكتب عن حضارة المنطقة، وكتب تعتبر في حدّ ذاتها وثائق نادرة، والطبعات الأولى لكتب لم يعد طبعها ثانية.
وتضيف محدثتنا أنهم لم يتركوا المجلدات الكبيرة، والتي تضمّ أهم المجلات التي ظهرت في المنطقة العربية من مصر والعراق وسوريا ولبنان وكامل المنطقة منذ بداية القرن الماضي، فلم تسلم منهم، وحتى الكتب الفنية لأكبر متاحف العالم والفن العربي المصري والعراقي والسوري وروائع أعمال الفنانين، حتى نسخة من القرآن الكريم بطبعة مميزة شوهت ودمرت، ولم تسلم أيضا الكتب الموجودة بكل اللغات الأنكليزية والفرنسية ولغات أخرى، وليس هذا فقط بل كذلك كتب المذكرات لأهم الشخصيات العربية والعالمية، وكتب حول تاريخ المنطقة والعالم حضاريا وسياسيا واجتماعيا وحول الصحافة والأحزاب”.
وتواصل قوادري: المدهش أن الفاعل صعد إلى مكان في الأعلى يحوي كامل المجموعات من مجلات سياسية وفكرية وثقافية واعتدى عليها، الفاجعة امتدت إلى انتهاك الحقوق الفكرية بما فيها كتب وروايات منيف الخاصة، إذ قام أيضا بنسخ ما يريد كما يحلو له للمتاجرة به،حتى أن بعض الكتب أزيلت منها الإهداءات وضاعت هوامشها.
وتضيف زوجة منيف: الإتلاف والاستنساخ تمّا بطريقة بدائية ووحشية، إذ أن المعتدي كان يمزق أغلفة الكتب ويفك الملازم ويقوم بتصوريها، ثم يعيد ترتيبها بطريقة مشوّهة لأشكال الكتب، حتى أنه كان يخرزها بصورة بدائية جعلت كثيرا من الكتب صعبة التصفح، بل والأفظع أن من لقبه أبوطارق يضع توصياته للمغلف على الصفحات الأولى كي يتمّ التعرف على الكتب حين عودتها، لكن السؤال من أوكله بالتغليف.
وتصف قوادري بأن الفاعل حمزة برقاوي ومن عاونه عمد إلى تغيير أماكن الكتب وترتيبها ظنا منه أنه سيخفي فعلته فغرقت المكتبة بالفوضى؛ الشعر مع الفلسفة، والتاريخ مع الأدب، ولم يعد بالإمكان التعرف على شيء منها.
التشويه المريع
عمليات تشويه مريعة قاسى منها تراث منيف، أغلفة ممزقة، وحالات من قص ولصق وتشويه، تقول قوادري: بقيت لعدة أشهر تحت الصدمة وأنا أراجع الكتب وأتفقدها، حتى اكتشفت أن العملية لحقت كل ما في المكتبة. منظر مفزع بقيت إثره مصدومة وغاضبة كلما اكتشفت حالة جديدة، هناك كتب أصبحت بلا قيمة إثر التشوه الذي تعرضت له، حتى أن كثيرا من الكتب استبدلت بنسخ مصورة عوضا عن الأصلية؟ ربما بسبب السرقة أو الإتلاف”. وتضيف قوادري بأنها رفضت مغادرة دمشق أو نقل المكتبة ومحتوياتها أو بيعها لأي جهة، رغبة منها في تحويل البيت إلى متحف أو مكتبة وطنية فيما بعد.
ما يثير قلق قوادري هو المخطوطات والرسائل التي اختفت من الخزنة، إذ تمكن الفاعلون من فتحها والعبث بمقتنياتها وسرقة رسائل هامة ويوميات عبدالرحمن منيف وبعض من مخطوطاته التي لم تنشر، وهي في بداية الإعداد، وما يثير القلق هو محاولته لتقليد توقيع منيف، وهو ما يمكن أن يجعل تراث منيف عرضة للتحريف والتحوير، وقد يستفاد منها لاحقا لتشويه سيرة الكاتب ومواقفه، وهذا اعتداء ليس فقط على منيف، وإنما على حق عائلته بالتصرف في إنتاجه وما ينشر وما لا ينشر.
تقول قوادري “هذه الفاجعة حصلت في لحظة تاريخية، فالبلد الذي نعيش فيه يدمّر يوميا، البلد الذي اختاره عبدالرحمن ليستقر فيه ويؤسس فيه مكتبته، كذلك دمشق المدينة التي أحبها وبدأ بالكتابة عنها في مخطوط مع صديقه مروان قصاب باشي، كانت مسرحا لهذا الاعتداء”. وتذكر قوادري أن المشروع المشترك لم يكتمل بسبب المتاعب الصحية في أيامه الأخيرة.
تعجز الكلمات عن وصف ما حدث، فلا توجد لغة مناسبة للتعبير عن الخسارة التي مني بها تراث صاحب مدن الملح، تقول سعاد قوادري: الأمر وقع في فترة حرجة لما يمرّ به الوطن من قبل، وضع استثنائي يجعل العمل والبحث في هذه الجريمة دقيقا للغاية قد يأخذ زمنا طويلا، وخصوصا أن حقوق الملكية في البلاد العربية ليست مضبوطة قانونيا بصورة دقيقة، وهذا يترافق مع وضع سوريا التي تشهد حالة من الحزن الشديد”. وتعتبر قوادري أن أي تصرف في هذا التراث الخاص بمنيف سواء بالمتاجرة أو التشويه، سيتم تتبعه وملاحقة الجاني وعائلته وورثته بكل الوسائل المشروعة وأينما كانوا.
تطرح قوادري بعدها سؤالا يعكس العلاقة بين المثقف وبين بلاده إذ تقول: هل كون عبدالرحمن منيف بلا جنسية يجعله عرضة لضياع حقوقه الأخرى أيضا وعرضة للانتهاك؟ هل تراثه يكون بدون حماية؟ أنا أدعو كافة الجهات المسؤولة عربيا وعالميا عن الثقافة وشؤونها للوقوف في وجه هذه الممارسات والحفاظ على تراث الكتاب والمثقفين العرب بوصفه تراثا إنسانيا، وملاحقة كافة المجرمين في حقه.
الحديث مع سعاد قوادري يمتدّ، فهي شاهدة على تاريخ التحولات التي مرت بها المنطقة العربية، وتستدعي ذكرياتها مع منيف بصورة دائمة، وتبدو عليها السعادة حين تسمع من الجيل الجديد الذي مازال يرى في منيف كاتبا له تأثيره لديهم. إلا أن حزنها عميق وهي ترى الطبعات الأولى من كتب جبرا إبراهيم جبرا مشوهة وحزينة، بعدما طالت يد الشر أيضا مكتبته الهامة واللوحات التي لا تقدر بثمن.
بأسف وحزن بالغين تنظر إلى العناوين والإهداءات التي كتبت على الصفحات الأولى من مؤلفات كثير من أصدقاء منيف قد شوّهت وأحيانا أتلفت، هذا الفعل الذي شهده تراث هذا الكاتب مشين، ويمكن أن يطال العديد من المثقفين والكتاب الذين مازالت مكتباتهم وأوراقهم عرضة للنهب.
________
*العرب