بكاء التماسيح على آثارنا


*بروين حبيب

فجأة عرفنا أن لنا آثارا ذات قيمة تاريخية كبيرة، بعد أن هشمت معاول «داعش» بعضها هنا وهناك. فجأة بين ليلة وضحاها صرنا نبكي على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحف والتلفزيونات، وكأننا كنا نعرفها من قبل، أو أننا كنا نعطيها أهمية؟ وفجأة أيضا أصبحنا نصف من قام بتكسير ذلك الإرث بالوحشية والجهل وأوصاف أخرى وكأننا أبرياء مما حدث!

حين زرت الأهرامات لأول مرة، أتذكر البؤس الذي كان عليه المكان، والدليل الذي سرد علينا تاريخ الأهرامات كان عيّنة عن البؤس نفسه، ثيابه التي تقطر عرقا من تحت الإبطين وسلسلة الظهر، الفقر الذي ينبعث من بؤبؤ عينيه، وملامحه التي رسمها الحزن…
كل خطوة كنت أخطوها في تلك المساحات كنت أرى مزيدا من البؤس، حتى صاحب الحنطور الذي اهتم بجولتنا حول كل الأهرامات كان أشبه بمومياء تتحدث، عرّف عن نفسه ثم عن حصانه، وطلب منا ألا نتعب الحصان كثيرا، لأنه لم يأكل جيدا. وفي الحقيقة بدا لي يومها أنه لا هو أكل ولا الحصان. وإن كان الدليل همس لي أن هذه طريقة لاستعطاف السياح، لكن هل يمكن للشبعان أن يفكر أصلا في استعطاف أحد؟
الإهمال هو ما يميز المكان، وقد ظل دليلنا يكرر أن آثار مصر نهبت من طرف الغرب، لكن ما بقي من آثار ألم يكن يستحق اهتماما؟ 
حين زرت متحف لندن بعدها بسنوات ووقفت أمام جثمان كليوباترا، أدركت أننا شعوب لا تعرف كيف تحترم ذاكرتها وتاريخها وميراثها وكنوزها. في ذلك المتحف وجدت أكبر مجموعة من تحف بلداننا العربية، هناك قطع بحجم بناية من ثلاثة طوابق، ومع هذا نقلت من العراق ومصر وبلدان أخرى، وسهر البريطانيون على الحفاظ عليها وجعلها بوابة رزق لأبنائهم، ومورد مال لا ينضب لمملكتهم. 
وحين نقرأ حكاية كل قطعة، وكيف حصل عليها البريطانيون، ندرك أنهم عرفوا قيمة الموروث الإنساني باكرا، وأن ما قاموا به، شبيه بما يقوم به أي شخص مهوس بالتحف ويقوم بجمعها. 
طبعا الذين يرون دوما النصف الفارغ من الكأس، سيعتبرون كلامي دفاعا عن «سرقات الغرب»، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، ماذا فعلنا بكل ما نملكه؟
صديقة من بيروت أخبرتني ذات مرة، أنها تمر يوميا على مدى ثلاثين سنة أمام متحف بيروت، ولم يخطر ببالها أبدا أن تزوره؟ وحين سألتها لماذا؟ أجابت «ما حدا يحب يروح معي»، وأردفت أن تلاميذ بعض المدارس يزورونه وأنه لا يحتوي على الشيء المهم الذي تملكه متاحف العالم.
وهذا ليس وضع متحف بيروت فقط، فأوضاع المتاحف كلها في العالم العربي بائسة، متاحف أسست وفتحت من دون أدنى شغف بالتحف الأثرية وبصمات التاريخ. متاحف سُلّمت لوزارات الثقافة، وهذه الوزارات وظفت موظفين أغبياء يسجلون حضورهم اليومي في مكاتبهم، ويقبضون مرتباتهم في آخر الشهر، من دون اكتراث كبير بما يحدث خارج أسوار الوزارات. آثار كثيرة نجدها مهملة وسط أحياء مأهولة بالسكان، بعضها يصبح مزبلة ولا داعي لتسمية الأماكن، حتى لا يعتبر البعض مقالتي إهانة موجهة لبلدان بعينها، لكنني رأيت ذلك بأم عينيّ في عدة بلدان عربية. المؤسف في كل هذا أن ما سبق معاول «داعش» فترة طويلة من الإهمال، وفترة أخرى كوّنت الدواعش وشحنتهم بأفكار وفتاوى حوّلت هدم آثارنا ومكاسب حضارتنا إلى فريضة دينية وجب تنفيذها. 
على مدى عشرات السنين ونحن نسمع تلك الفتاوى ونهزأ ممن يقولها ومن يؤمن بها، بلامبالاة قاتلة كنا سلبيين جدا تجاه ما ينمو بين أعيننا. واليوم حين نرى الشّام تُدمّر بالكامل، وهي متحف كامل يضم تاريخ آلاف السنين لحضارات تعاقبت على المنطقة، ونرى العراق يمسح من خريطة الحضارات العريقة، بمعاول الجهل الذي قمنا بحضانته، هل يحق لنا أن نبكي على ما حدث أمام متحف باردو في تونس؟ وهل فعلا دموعنا دموع أسى وحزن على ضياع ميراثنا التاريخي الذي لن يعود؟ أم أنها دموع النّدم في وقت متأخر جدا… أظنّ أنّها دموع ندم، إن لم تكن دموع تماسيح حفاظا على ماء الوجه أمام الرأي العام، أمام الغرب الذي نمنحه دوما فرصا ثمينة لإدانتنا. 
في تونس يطلق الرصاص في وضح النهار على سياح أجانب أمام متحف باردو الشهير، وهذه رسالة وقحة تقول للسائح الغربي لا تأتي لزيارة متاحفنا، إبق حيث أنت، وخلف هذه الرسالة رسالة أخرى تقول، إن آثارنا ستأتي إليك، فقط إبق حيث أنت، ثم رسالة ليست أخيرة تقول إن ضرب التاريخ امتد إلى المغرب العربي من بوابته الصغيرة تونس، وإن ما بدأه حملة راية الجهل من الشرق يمتد بسرعة إلى المغرب. 
بين ضحايا عملية الاغتيال الجبانة مات شرطي تونسي، وهذا يعني أن تحفنا وآثارنا لا تهم غير الغربيين، وأننا لم نكلف أنفسنا حتى حماية هذه الأماكن التي تحوي الكثير من الشهادات التاريخية الملموسة على حقب عاشها الإنسان في هذه الرقعة. لا شيء مهم، وتلك الردود السياسية «الغاضبة»، ليست أكثر من ردات فعل آنية، كما حدث في العراق سابقا، بكاء وثرثرة أمام كاميرات الفضائيات العربية، ثم نومة أهل الكهف من جديد.

مثير للأسئلة أن لا عربي بين السياح الأجانب! مثير للدهشة أيضا أن العربي الوحيد الذي يموت شرطي يتيم لم يلحظ حتى وجود المتربصين بالسياح، ولم يتمكن حتى من استعمال سلاحه، هذا إن كان فعلا مسلحا.

بربكم ألسنا مثار سخرية أمام العالم، ونحن نبث أشرطة الدواعش بالصوت والصورة إثباتا لفعلتهم؟ أليس الإعلام العربي اليوم يساعد في تجنيد كم هائل من الشباب العاطل عن العمل والمطرود من المدارس باكرا من دون انتباه؟

هذا الذي يسميه الدواعش نصرا، وهو في الحقيقة طريقة ذكية لإرعاب المجتمعات العربية أكثر، أليس رسالة أخرى لجعل هذا المجتمع يزداد تأزما؟ 
كل ما أراه بعد هذا الطرح هو أن حملات جديدة لتهريب آثارنا بدأت مع حملات الدواعش عليها، وأن قسما مما نراه يحطم بمعاولهم، قسم بسيط جدا، أما البقية فهي تهرب بملايين الدولارات إلى الغرب من جديد. وبعد فترة من الزمن، بعد أن تنتهي كل هذه المسرحية سنجد قطعا ثمينة وجديدة في متاحف بالعواصم الغربية تعرض بشكل شرعي، وسنردد بكامل إرادتنا «حمدا لله أنها أنقذت من بلداننا التي لم تعرف أن تحميها» وهذا هو الذكاء بعينه.
نترك كل شيء بين أيدينا هنا بين أحضان الإهمال… ثم نشجع بطريقة غير مباشرة كل طرق العبث بما نملكه من تحف وكنوز… ثم نشتري تذاكر نحو الضفة الأخرى، ونقف طوابير أمام متاحفهم لنرى ما فقدناه… تذكرة الدخول قد تكون أقل شيء، حسرة لا تنطفئ بسهولة في قلوبنا.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *