عتّال الطبقات


*عبد الحليم أبو دقر

( ثقافات )

«أبو ساعة» طالع بسيارته الحديثة طلوع عين غزال باتجاه طبربور قادماً من الزرقاء، رأى فتاة جميلة تقف على طرف الشارع، توقف لها، فتح باب السيارة، صعدت الفتاة بجانبه. غمرت السعادة «أبو ساعة» لأنه نجح في إنقاذ هذه الفتاة من الوحوش التي كانت تطاردها، فتاة فضّلته على الجميع، اختارته من بينهم، رفضت الصعود معهم حتى وصل «أبو ساعة» إليها، لن ينسى «أبو ساعة» موقفها هذا، سوف يكافئها عليه في القريب العاجل.. نظر فيها نظرة ودّ، نظرة محبة، نظرة إعجاب، أراد أن يقول لها:”أنت في أيدٍ أمينة الآن، ولن يستغلك أحد». انهالت عليه السيارات التي كانت تزاحمه على الفتاة ب(الدمّات) تبارك له إنجازه المفاجئ، حتى إن كثيرين منهم لوحوا له بأيديهم ولم يكتفوا ب(الدمّات)، وبعضهم أطلق العنان لبوق سيارته. كان «أبو ساعة» طوال هذا اليوم مرهقا، كان «أبوساعة» أكثر من مرهق، كان «أبو ساعة» «قرفاناً» طول اليوم، يشعر بإحباط كبير، كان يومه من أسوأ ما يمكن، بدأ بزوجته أول ما فتح عينيه، وقبل أن ينهي إفطاره طلبت منه مبلغا كبيرا، لم يستطع أن يرفض طلبها، يريدها أن تشهد غدا في المحكمة على زوج أختها وعلى أختها، وقد يحتاجها أيضا في الشهادة على أهلها إذا نفّذ ما اختمر برأسه قبل أيام، كما أن الأيام القادمة ستكون حبلى بما هو أكثر من هذا بكثير.. أنسيت زوجته كل ما فعله من أجلها؟! أنسيت زوجته أنه رفعها من الحضيض، من الوحل، هي وإخوانها، وكلّ أهلها، وجيرانهم، وكلّ حارتهم، حتى إنه رفع كل منطقتهم؟! وفي النهاية حشرته زوجته في الزاوية، ابتزّته، أخذت منه كل المبلغ الذي أرادته.. أخذ «أبو ساعة» يلوم نفسه، يضرب حاله، يبصق على وجهه في مرآة الحمّام، يقسم أنه منذ اليوم لن يرفع أحد، لن يَصعد أحد على ظهر «أبو ساعة» من جديد، منذ اليوم «أبو ساعة» لم يعد عتّالاً عند أحد، «خيراً تعمل شراً تلقى»..
ظل «أبو ساعة» مشغولاً بما فعلته به زوجته، يضع خططاً انتقامية ليعاقبها على استغلال وضعه، يردّد: « تنتهي القضية وأرفسها بقدمي»، إلى أن وصل إلى محمصه في أهم شوارع الزرقاء..
تمكّن سامح المحاسب من إخراج «أبو ساعة» من كل ما كان فيه من أمر زوجته، طلب سامح سلفة كبيرة من «أبوساعة». وسامح ابن حارة «أبو ساعة»، ابن جيرانه قبل أن تتغير أوضاع «أبو ساعة» ويصير غنياً، ويغادر «جناعة» إلى أرقى أحياء عمان الغربية. أنسيَ سامح كل ما فعله «أبو ساعة» من أجله؟! أنسي سامح أن «أبو ساعة» رفعه من الحضيض، من الوحل، هو وإخوانه، وكلّ أهله، وجيرانهم، وكلّ حارتهم، حتى إنه رفع كلّ منطقتهم، وفي النهاية حشره سامح في أضيق زاوية، ابتزّه، أخذ منه كل المبلغ الذى أراده.. ألأنّ سامح مطّلع على ما يعدّه «أبو ساعة» من مؤامرات في الخفاء للخلاص من شراكته مع أخيه في المحمص، يحقّ له أن يبتزّه؟! ألأنه يعرف الطريقة التى يتهرب فيها «أبو ساعة» من ضريبة المبيعات يحقّ له أن يفعل فيه ما يشاء؟! كان بإمكان «الربع الفارغ» أن يخلّصه من سامح، ويدلّه على الطريقة الجديدة التي وعده بها ليتهرب من ضريبة المبيعات..
لن يفكر «أبو ساعة» منذ اليوم إلا بحاله، «لازم» يكون «أبو ساعة» أنانياً قليلاً، «لازم» يكون «أبو ساعة» لئيماً حتى تمشي أموره، الطيبة دمرته، لن يحلموا بعد اليوم أن يرفع «أبو ساعة» واحداً لفوق، «هذه عالم مكانها الصحيح في الوحل»، مثل الدود، لا يستحقون أن يظل «أبو ساعة» يفكر فيهم ليل نهار، لا ينام الليل وهو يحلم كيف يرفعهم، يسمح لهم بالركوب على ظهره، ويصعد فيهم فوق فوق، ويُنزل غيرهم تحت حتى يوسع لهم مكاناً فوق، كم صعد «أبو ساعة» بأمم! كم نزل «أبو ساعة» بأمم! بدل أن يمجدوه، بدل أن يعملوا له تمثالاً، يبللون الأرض تحت قدميه إذا ما غفل عنهم للحظة، تزحلق «أبو ساعة» بحمله الكبير، ارتطم جبينه بصخرة، تفجر منه الدم، تسببوا له بفتحة مهولة في جبينه. 
يصحو «أبو ساعة» للحظات، يقرّط كفيه، يأكل أصابعه، يغفو من جديد، يعود إلى ما كان فيه من عتالة، طالع بطبقات كاملة إلى أعلى الأماكن.. طول الليل و»أبو ساعة « يقلب مَن فوق تحت، ومَن تحت فوق، يلقي آلاف الخطب.. يصحو من جديد، يجد وسادته تلوثت بالدم، وتلوث فراشه من دون أن يتمكن من التوقف عن تقريط كفيه وأكل أصابعه.. 
غادر «أبو ساعة» محمصه في الزرقاء وهو في قمة الغيظ، ظل يلعن «الربع الفارغ» لأنه ضحك عليه ولم يعطه الطريقة التي وعده بها ليتهرب من ضريبة المبيعات، ويفكر كيف سينتقم من سامح عندما يحصل على طريقة «الربع الفارغ» إلى أن رأى الفتاة في طلوع عين غزال، أول ما صارت بجانبه في السيارة، قال لها: «ننزل إلى البحر الميت، أرقى فندق 5 نجوم، أكل، وشرب، وسباحة، مساجات، ماء ساخن.. خارج الزمن، بعدها سآخذك إلى صديقي (الربع الفارغ)، وهو من أهم التجار الشطار الجدد، تاجر ساعات كبير، محلاته منتشرة في أرقى المولات في عمان الغربية، أو نتصل فيه، يلحقنا إلى البحر الميت.. أنتِ ظلك معي، وأنا أرفعك فوق فوق، أغيّر كل حياتك». فقالت له: «ما يمكن قضاؤه في ربع ساعة لا يجوز قضاؤه في 12 ساعة، نحن في عصر السرعة، عليك أن تتخلص من الخوف، وتسترخي الآن، لا تسمح للمشاكل الجانبية أن تؤثر عليك، كن واضحا، تخلص من التردد إلى الأبد»..
نهار اليوم التالي:وسط البلد. إحدى البنايات. الطابق الثالث. مكتب «الربع الفارغ»:
كان واضحاً من شكل «أبو ساعة» أنه لم ينم ولا دقيقة ليلة أمس، قال ل «لربع الفارغ» حتى قبل أن يجلس على الكرسي بجانب طاولة مكتبه: «مصيبة وحلّت عليّ، ساعدني، خلّصني، أنت السبب في كل ما حصل لي يوم أمس مع إحدى الساقطات، لقيت بنتاً على الطريق تنطبق عليها كل مواصفات البنات اللاتي تحبهن، قلت آخذها بطريقي ل (لربع الفارغ)، نصبتْ عليّ، شلّحتني كل المصاري التي كانت في محفظتي، عليك دفعها لي، فكل الذي حصل كان بسببك، أخذتْ مني..».
قاطعه «الربع الفارغ»: «لحظة، أريد أن أقول أنا ما هو المبلغ الذي كان في محفظتك وأخذته تلك الفتاة، إنه 350 ديناراً، وعشرون دولاراً، ومئة يورو».وقف «أبو ساعة» وهو يردد: «صحيح، صحيح، كيف عرفت؟!». 
قال له «الربع الفارغ»: «اقعد، لا تقف مرة ثانية بهذه الطريقة، أعصابي تعبانة. وجدتَ محفظتك تحت كرسيك من الخلف، وفيها كل أوراقك الرسمية، صح؟».همّ «أبو ساعة» بالوقوف، إلا أنه تراجع بإشارة من «الربع الفارغ» الذي أكمل: «سألتْكَ عن الفتحة في جبينك.. فكّ أزرار قميصك، أنت ترتدي تحت هذا القميص تي شيرت سوبرمان، صحيح؟».
– كيف عرفت؟! 
– أريدك أن تخلعه الآن. (نفذ «أبو ساعة» من دون أي اعتراض).أكمل «الربع الفارغ»: «أنا لا علاقة لي بالموضوع، وإذا أخبرتني عن القصة الحقيقية للفتحة في جبينك أخبرك كيف حصلت على كل هذه المعلومات، وأجمعك بالفتاة حتى تأخذ ما سرقته منك». 
– سائق سرفيس على خط جبل عمان، تشاجرتُ معه بشارع بسمان بسبب الأزمة، كنت وراءه.. 
– بماذا ضربك حتى فتح جبينك بهذه الطريقة المخيفة؟
– بـ (الجَكّ).
– ب (الجَكّ)؟!
– ظللت «أضرب فيه كفوف» كل نزلة شارع بسمان، والناس تتفرج عليه.. للآن لا أعرف من أين أحضر «الجك» الذي فتح جبيني فيه.
– كل المراجل، وفي النهاية سائق سرفيس يفتح جبينك بهذه الطريقة من دون أن تفعل له شيئاً! يعني كل كلامك عن هذه الفتحة في جبينك طلع كذباً، كل مراجلك طلعت كذباً، عليّ إعادة التفكير في كل علاقتي معك. على كل حال أعتقد أن هذا السائق هو الذي كان معك في السيارة يوم أمس.. تسيطر عليّ فكرة أنه لن يحلّ عنك. 
أخرج «الربع الفارغ» صحيفة ل»أبو ساعة»، مدّها له: «اقرأ؛ ألقوا القبض على الفتاة التي ضحكت عليك، طلعت (زلمة) يتنكر في شكل فتاة، أما باقي التفاصيل، مثل المبالغ التي ادّعيت أنها في محفظتك وسجّلتها في محضر الشرطة، ولم تعترف هي إلا بمبلغ 350 ديناراً، فتجدها في المواقع الإلكترونية.. أريدك ان تغيب أربعة أو خمسة أيام، لا أريد أن يعرف أبي وإخوتي أي شيء عن هذه القصة، إذا قرأوا الصحيفة سيربطون الأمور، موقفهم منك مخزٍ، ولن يحتملوا مثل هذه القصة.. غادر فوراً..».

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *