منصف المزغني*
1- من فرط الكفر والإيمان
من فرط الكفر بالوطن والحسّ الوطنيّ والعلم الوطنيّ والوحدة الوطنية، والمصلحة الوطنية والنشيد الوطنيّ، والحدود الوطنية، فانهم لا يؤمنون بالثقافة ولا بالحياة ولا بالشعوب وهي ترنو الى المستقبل الأفضل، وتناضل من اجل الوردة والخضرة ضد الذبول والموت.
ولأنهم كذلك، أوْ أسوأ من ذلك، صار ما صار من هجوم على متحف “باردو”، عاصمة الذاكرة الحضارية التونسية:
أكثر من 21 قتيلاً و42 جريحاً ونفذ الجريمة شابان تونسيان بتوقيع داعش.
2- باردو مدينة مسالمة
و”باردو” اسم مدينة شعبية جميلة هادئة ذات رنين تاريخي حديث، تقع على بعد 4 كيلومترات عن قلب تونس العاصمة، وبها يستقرّ مجلس النواب العريق الملاصق للمتحف الوطني المعروف بمتحف باردو المصنّف باعتباره ثاني المعالم العالمية من حيث احتوائه على فسيفيساءات نادرة (مثل الشاعر فيرجيل وقد أحاطت به عرائس الإلهام،والإله نبتون).
وباردو يأتيها الزوار وعشاق المتاحف من كافة أطراف العالم، فضلاً عن عديد القاعات العامرة بالآثار والمزدانة بأجمل النفائس المبوبة بحسب الحقب التاريخية التي عرفتها تونس على مدار ثلاثة آلاف سنة من الحياة والحب في جدل السلام والحرب.
3- الجهاد ضد البلاد والعباد
يكرهون السياح ويبرمجون مجازرهم لاستهداف السياحة والاقتصاد، ويشحذون السواطير ويضربون الثقافة في الرأس، ويسلخون موسماً أو مواسمَ سياحية، ويطلقون الرصاص على أرزاق جزء هام من شعب تونس الذي يعتاش على السياحة، في ذلك الأربعاء الحزين بتاريخ 18 مارس 2015، هذا اليوم الذي سيكون الفارقَ و الحارقَ في تاريخ تونس الحديث. لأنّ ولديْن من أبنائها قررا أن يساهما في إسقاط ما يسمّى عند الجماعة بـ “دولة الطاغوت”.
4- الكفاح من أجل السياح
أ- من الأمثلة التي يعرفها العرب وباقي الامم في حب المتاحف:
مثال السياحة الإسبانية التي تستفيد سنوياً من الدخل السياحيّ الذي يجلبه لها التراث العربيُّ فقط ، و”قصر الحمراء” بقرطبة وحده دليل كافٍ على ما يحدثه من ارتفاع في بورصة قرطبة السياحية.
ب- ومن الأمثلة القوية التي يعرفها الفلسطينيون قبل غيرهم:
ما فعله بنو صهيون الذين سرقوا واستنزفوا التراث الفلسطيني المسيحي والإسلامي في شتى المجالات من لباس وطعام وأنماط جمالية، و حوّلوها لصالح الدولة الإسرائيلية في متاحف منظمة ومبوّبة ، في تل أبيب، والقدس، ويافا، وصنعوا متاحف تجلب السياح رغم أنها تزخر بالتزييف، وتمويه التاريخ، وتزوير الحقائق، وتلفيق الأساطير المسروقة من التراث العربي الفلسطيني.
5- الجهاد ضد البلاد والعباد
وحتى لا ننسى:
أ- قبل أقلّ من عقديْن من الزمان، هاجمت العصاباتُ ذات التوجهات التكفيرية السلفية صباح 17 نوفمبر 1997 في محافظة “الأقصر” المصرية مجموعةً سياحيةً مؤلفةً من عشاق الحضارة المصرية العريقة، فقد تنكر ستة رجال مسلحين في زي رجال أمن، وبأسلحة نارية وسكاكين ذبحوا 58 سائحاً خلال 45 دقيقة. وتم التمثيل بجثث الضحايا، وكان لهذه العملية تأثير سلبي على السياحة في مصر. ولقد حاول هؤلاء المهاجمون الاستيلاءَ على حافلة وعندما مُنِعوا من ذلك، فضّلوا الانتحار.
ب- كما لا تنسى الذاكرة الإنسانية ذلك اليوم الذي أعلن فيه أحد قادة “طالبان” عن نيته في تدمير تماثيل بوذا سنة 1997، ودمرت طالبان رؤوس التماثيل بحجة أنها مخالفة للشريعة الإسلامية.
ج- و في صبيحة 7 اكتوبر 2004 انفجرت سيارة مفخخة أمام فندق هيلتون طابا – المكتظ بالسياح الإسرائيليين.! .
د- وفي 11 أبريل 2002 انفجرت شاحنة نقل الغاز الطبيعي أمام الكنيس اليهودي بجزيرة جربة التونسية، ونتج عنها مقتل 6 سياح فرنسيين و6 تونسيين وفرنسي، وجرح ما يزيد على 30 إنساناً، وفي تسجيل تلفزيوني تبنّى العمليةَ أيمن الظواهري من تنظيم القاعدة.
ه- وفي 2008 تم اختطاف امرأة ورجل سائحيْن رهينتينْن في الصحراء التونسية، وقد تمّ احتجازهما من قبل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في شمال مالي، ولم تخرج نوايا الاختطاف عمن الطمع في فدية مالية مقابل الإفراج عنهما.
و- وحتى لا ننسى، ففي 26 فبراير 2015 ، وفي شريط فيديو قصير ومرعب بثته الجماعة التكفيرية وشبابها يُهْوي بالمعاول وَالفؤوس ويدعش بالرؤوس على تماثيل المتحف الموصلي العراقي في مشهد لا يجب ان يُنْسَى او يُغفَر.
6- لا عذر في غدر
أهل الكهف يستيقظون أقلّ وفاء من كلبهم.
يكرهون الآخر ، سواء كان من أبناء جلدتهم وعمومتهم، أو من أهلهم، فأهلهم كافرون ويجب أن يعودوا بالقوة إلى الإسلام تحت حكم الشريعة، وأما الآخرون من الأوروبيين والأمريكان، فهم ، في نظرهم “كفار ولا يجب أن يدنسوا بأقدامهم أرض الإسلام، ولا مناص من طردهم، وإذا جاؤوا، فإنهم ملاقون عذاباً وسعيراً”.
وَتندهش: هل هؤلاء منا!؟
لقد جرحتْ مشاعرُ الكرم والاحتفاء بالضيف لدى جلّ التونسيين (باستثناء أولئك الذين احتفلوا فرحاً ونحروا الذبائح) بمناسبة هجوم همجيّ على سياح نزلوا سريعاً في رحلة بحرية إلى العاصمة ليتفرجوا على معالم أثرية، فصاروا، وما اختاروا ، ضحايا تمت تصفيتهم بسرعة البرق وكثافة الطلق من قبل شابيْن، وكانت الضحايا من جنسيات أوروبية وأمريكية مختلفة، وبينهم تونسي رجل أمن شجاع هو أيمن مرجان.
– ولكنهم لا يعرفون معنى الضيف وَ الضيافة، وكأنهم ليسوا عرباً ولا مسلمين، وكأنَّ الله خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعَاوَفوا بدل أنْ يتعارفوا!
– ما أقسى ان يُقتَل لك ضيفٌ في بيتك أمام ناظريْك، وما ألْعَنَ أنْ تُغدَر من أخيك، ابن امّك، وابن عمّك، وما أعجب أن تتذكر الزعيم الحبيب بورقيبة وكلماته ترنّ في الذاكرة حين كان لا يكفّ عن التذكير قائلاً: “لا خوف على تونس من الخطر الخارجي، وإذا كان هناك خطر يتهدد تونس، فلنْ يتأتى إلا من أبنائها”.
– وهل ينفع الحوار؟
– قال أبوحيّان التوحيدي: “لا عُذْر في غدر”.
* شاعر من تونس
( موقع 24 الإخباري )