وارد بدر السالم*
ينحشر المؤلف في زاوية من الحياة ضيقة تماماً. لا تتسع في يومياته المكررة فهي مكررة على نحوٍ يدعو للشفقة ؛ بل تضيق كلما انطوى يومٌ جديد من روزنامة عمره ، كما تنطوي صفحات الغبار على مؤلفات المؤلفين الغابرين القابعين في أكفان صفحاتهم . وفي هذا الضيق يتنفس ، ومنه يحشر عينيه في دائرة المكان ليرى العالم على نحوٍ ما برغبة صادقة ؛ من أجل لا تضيق العبارة هي ايضاً في زمنٍ صارت به ديكوراً تزيّن به عاشقات الفيسبوك صورهن المستعارة!
(1)
يجمع المؤلف حسراته في إناء واسع كي لا تفيض ، أوسعَ من قميصه الوحيد، ويختزل دموعه بقصيدة أو ومضة أو قُصاصة أو ملاحظة أو سطرٍ يتيم . ويتحسس جيبه الفارغ ويمضي تحت شمس ساخنة الى يومه الجديد ، من دون أن يكفّ عن ملامة نفسه حينما تتقاطر روحه أمام عينيه وتتشظى وتحتضر، وهو يمضي الى الشارع الوحيد في اليوم الوحيد .. الى سوق الكتب !
تلك هي أولى الكآبات البغدادية . من كآبة المدينة الى كآبات المؤلفين الضالعين في فقرهم وأوهامهم والى كتبهم المعلّبة بسمرة الورق ورائحة الغبار على أرصفة الشارع الوحيد، الذي شاءت له الأقدار أن يبقى عامراً في تقلبات الزمن وتقلبات السياسة وتداعياتها ودمويتها في الأحيان كلها.
يومهُ شارع .
وزمنه شوارع .
وحياته أرصفة وتوابيت .
(2)
يحتال المؤلف على ايامه لكنه هناك يجد المؤلفين الجدد والقدامى ، ويستمع الى منجزاتهم الشخصية.
لص ثقافي يتناص مع غيره بمشورة الصديقة كريستيفا ، وناقد يفكك روحه بطريقة العم دريدا وروائي يقتفي أثر الجد ماركيز في عجائبياته ليجد ان عجائب بلاده أدهى وأمرّ ،وفنان أعادت له الجورنيكا فظائع بلاده الحربية فتجمد اللون بين اصابعه وشَخصَ بصره على الفراغ ، وهذا يسمونه ما بعد بعد الحداثة أو المفاهيمية الجديدة ، والرجل التائه في يومه يسميه ما بعد بعد سلة العجائب والغرائب ، فالرواية مثلاً تتقصى هذا النوع من فنطازيا الكتابة لأنها لا تنسلخ عن فنطازيا الأيام الضائعة في بطون الحروب والجنرالات -اللصوص في أزيائهم المدنية تحت شعارات الأخوة الطائفيين الوطنيين الى حد العظم!
(3)
المتنبي صديق اسبوعي يبيع خردة الكتب يوم الجمعة . ترك فرسه ومَعلفها في شارع الرشيد – في مساحة أرضية بنيوية استولى عليه عيّار من عياري”الميدان” وحوله الى مرآب مقابل ثلاثة آلاف دينار للساعة الواحدة. لكن المتنبي حرص على أن يكون سيفه بحزامه من جهته اليسرى ، كي تكون يمينه ضاربة في وقت الخطر على عناد مفارز العسس وأجهزة السونار في سيطرات الجيش العثماني ، كما ضربت يمينه بقلمه سيف الدولة وكافور الأخشيدي وطغاة العصور التي مر بها في صحراء حياته وربيع شعره.ليبقى المُنشد الأول في حفلة الخيول البلقاء.
وحده بين الشعراء العباسيين الذين تطوعوا لهذه المهنة العتيقة بالرغم من خطورة المارينز وهم يحتلون صروحه ويضربون ببساطيلهم قافية شعره ؛ وبقي الى اليوم ورّاقاً يتطلع الى الوجوه العابرة في زمنها اليومي والأسبوعي
يتشمم رائحة حبر عمره سبعة قرون .
(4)
من اليمين مؤلفون ميتون . ومن الشمال مؤلفون يحتضرون . ومن الوسط مؤلفون وسطيون في يوم الجمعة الكتبي ؛ والأقدام تتزاحم ، في عيون الباعة ، كفئران جائعة تتكاتف تحت عيون جاحظة ، وصديقنا المؤلف يتنشق تاريخ الكتابة السومري من ألفه الى بائه في سوق السراي ، فتسري فيه روح جديدة لا يستطيع للتو تفسيرها ، لاسيما وشعور سريع يطغى عليه من أن الطريق الى الثقافة المتكاملة يمر عبر موشور عنيد ويتحلل وتنتشر منه ألوان جديدة ، تضفي نكهتها على الحياة وتبقى ازلية مثل نيران الجسد المشتعل في صيفه الطويل.
(5)
أن تمشي على التاريخ في يوم جمعة أعزل تلك هي مفارقة ظريفة من ظرائف النور المعرفي الذي ينبثق مهما كانت سنوات الجذام قاسية في تبديدها للوقت
، في مِدادٍ يمتح من كل ساقيةٍ ونهرٍ، وفي تلقٍ يتلقى فضائل معرفية من اساتذة كبار وصغار احترفوا العلم في محترفاتهم الصغيرة وانشغلوا عن ماديات الحياة وطراوة روحها اللعوب ، ليبقوا اخيراً هنا . يستلقون على دكاتٍ وبسطاتٍ في شارع مرت عليه سنابك جندرمة السلطان العثماني وزعقت قبله ابواق الكركة الهنود وبعدهما عوت صفارات الإنذار المحمومة وهي تنذر من خطر الليزر الأميركي القادر على قنص القملة من على رأس المؤلف العراقي السكران !
تلك هي حكمة العصر الجديد . تلك هي عزلة الروح .
هذا يوم من أيام المؤلف يتكرر بالوتيرة ذاتها . سوق . كتب . مؤلفون . أوهام كثيرة يعرضها المتنبي وسيفه على خاصرته ، لم تكشفه سونارات عمليات بغداد القريبة ، فهو العارف بتقلبات الأزمان وغدر الساسة .
على مقربة من شارع المتنبي يسمع المؤلف صهيل فرس الشاعر المربوطة على عمود في شارع الرشيد ، فيعرف أن اليوم انتهى.