لا تدع أحلامك تهرب منك يا صغيري


هانم الشربيني*

( ثقافات )


   أكتب اليوم بعد فترة انقطاع عن سرد أيامي ومواقفي الزوجية في «مذكرات عروس».. أوقفني جنيني الذي في قلبي قبل جسدي عن الحديث. أتخيله هامسا لي الآن قائلا: «لا تتذكري الألم، سأعيد لك الابتسامة إن غابت.. سأعيد لك طفولتك، وإن حاول الغاصبون محوها. لا تتسرعي، لا تعتمدي على أحكام قلبك.. أعطي لعقلك فرصة للحكم على كل شيء بعد وقت كاف. أعرف أنك ضحيتِ بالكثير من سعادتك وحريتك لتحمليني في أحشائك. أنا أسمعك جيدا وأشعر بك وأنت تتحدثين معي لطرد تلك الوحدة الموحشة التي تحاصرك في بناية لا يسكنها غيرك. أعرف أنك امرأة تعشقين الصخب، وتريد أن تمتد يدي إليكِ لتشعري بالحنان. أعدك يا أمي بتصحيح كل شيء، لا أعدك طبعا برد المتاعب التي وقعتِ فيها، بل أعدك بعودة ابتسامتك النقية الصاخبة الخالية من كل هم، أتوقع منك مزيدًا من الصبر والتحمل. أعرفك قوية.. حرة.. متمردة. أريد ألا تنتصر عليكِ الحياة. اجعلي الأمل طوق النجاة لحياتك. اعلمي أنني الذي سكنت روحك الغالية.. أنا الذي أتنفس من أنفاسك، وأتناول طعامك، أنا أول شريك حقيقي لك.. أنا الشريك الذي يسكن داخلكِ ويشعر بكِ. دعكِ من كل الشركاء في الحياة، فقط عليكِ انتظاري يا أمي».
أشعر بأنه ترك لي تلك الرسالة اليوم، تركها وهو يعلم مدى أوجاعي الجسدية والنفسية. يعرف جيدا دموعي التي تسقط وأنا أكتب لشعوري بوجع لا يشاركني فيه أحد، وجع أحمله وحدي، أنا من أعرف تفاصيله، وغيري لا يشعر بي لأنه بداخلي مغلق ومختزن وجريح. جرحي لا يحتاج لطائر ليقف فوقه، جرحي يحتاج لطبيب ماهر ليس من بنى البشر، طبيب مرسل من الله، فالله وحده القادر على فتح المغلق، ويعلم ما لا يعلمه أحد.
أنا لا أشتكي أحدا في الحقيقة، أنا أشتكي الحياة جميعها. ما أكتبه ليس صرخة لوجودي، وإنما أنين لما أحمله داخلي.. وجع مما يحمله الوعي الذي أمتلكه. أنا أعلم أنني أبدو في الخارج كشخص عشوائي ساذج، وفي الحقيقة أنا مخزن من الوعي والشعور الذي لا يتحدث مع أحد. نعم أنا دائما مغرورة بذاتي، أراهن دائما على قوتها وصلابتها في عبور مصاعب الحياة، لكني اليوم أصبحت هشة وضعيفة، أبدو في صورة مسكين عجوز، تنهشه أوجاع جسده. أدفن أوجاعي في نوم لا يُسكّنها، بل يزيدها اشتعالا، ووجوه البشر من حولي صار النظر لها شيئا غير محبب على الإطلاق.. كل نظري اليوم موجه لداخلي. أنصرف عن وجوههم لأنني ببساطة لا أستطيع قراءة مشاعرهم تجاهي، فالكلام لا يعكس في أغلب الأحيان ما تحمله القلوب. صرت واعية ومنتبهة لتلك العيون المرتزقة التي تتسلل خلفي. ما يشغلني هو طفلي القادم، الذي أخاف على مستقبله.
نعم أخاف على مستقبل جنين أحمله برفق حاليا.. أخاف عليه من تلك الوجوه المزيفة من البشر. البشر صاروا أبشع من الحيوانات. غريزة القتل صارت وجبة يومية. المشاعر صارت سلاحا رخيصا يمتلكه فقط النبلاء وهم قلة قليلة. الكذب والخداع صارا غاية في حد ذاتهما. أتساءل: ما فائدة تأمين مستقبل طفل في مجتمع بل عالم لا يشعر بالأمان؟! الجميع يضعون مسدساتهم في جيوبهم.. الجميع يعملون ساسة، والسياسة صارت رزقا لكثيرين، ولا عزاء للضحايا. نعيش في عالم من القنابل غير المعلوم أماكنها. نعيش وسط بشر فقد الكثير منهم تلك الصفة. أنظر للشارع المليء بأشباه البشر. للمعاملات التي تفتقد للأخلاق. بل حتى السلع صارت منتهية الصلاحية. أشعر بالشفقة عليه من القادم. نحن صرنا في بلدان العالم الثالث المستهلك لكل ما هو رخيص ومنتهى الصلاحية. صارت أجسادنا موطنا لأمراض تصدر لنا. نبحث عن العلاج فلا نجده، مثله مثل الآدمية التي تم قتلها بدم بارد. لا أريد لخوفي أن يمتد.. أعلم دائما وأثق في قوة الله القادر على تغيير كل شيء.. له الأمر وحده.
عزيزي القارئ لا أتمنى أن أنقل لك حزني.. فقط أنا أفرغته على الورق في محاولة للتخلص منه. دائما أردد في داخلي جملة «السعادة تُعاش والحزن يُكتب». دائما أحسد من يكتبون لنا عن الفرح بطلاقة.. من يقولون للحياة سنعبرك ولا تنقصنا سعادة المرور.. من يصرخون: «لن نعيش في جلباب الحزن، وجلبة الحياة اليومية».
أتمنى أن أكتب لك عن السعادة.. أن أقتنصها.. لكن للأسف أنا بطبعى شخصية شجية. لوقت طويل تصادقت مع الوحدة وخلقت لنفسى عالما خاصا عشت فيه سنوات كثيرة. كانت لى طقوس معينة أمارسها مع الوحدة كل يوم. كنت أنظر للنجوم وأنتظر حركة السحاب. كنت أجلس على سطح بيتنا الريفى القديم في انتظار الشفق. كنت أتمنى كل يوم ألا تغيب الشمس أبدا.. لكن كان ذلك محالا. عادة ما كان يسلمنى كل نهار لليل، وكان المؤنس الوحيد في الليل «أحلامي».. فلا تدع أحلامك تهرب منك يا صغيري.
* كاتبة من مصر

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *