الإسلاموفوبيا عنصرية بامتياز؟


*واسيني الأعرج

ما يحدث اليوم على الصعيد العالمي، يتسم بخطورة شديدة يجب التنبه لها قبل فوات الأوان. يبدو كأن الدرس الفرنسي المؤلم لم يُستوعب كما يجب، ولم يُستفد منه إلا قليلا، في خوض حرب بلا هوادة فيها ضد الإرهاب، ومعاداة السامية والعنصرية المقيتة بمختلف تمظهراتها.

يجب أن لا تصاب النخب الثقافية الحية في أوروبا بالعمى القاتل مثلما حدث في الحرب العالمية الثانية حينما بدأت، في جزئها الكبير، تبرر الممارسات النازية والاغتيالات السرية بمختلف الشطحات الثقافية، لأن الوحش الضاري يتربى دائما في الخطاب الوطني المتطرف والأزمات الحادة. كان يمكن في أربعينيات القرن الماضي التخفيف على الأقل من ضراوة الوحش، والتقليل من مضاره التي انتهت إلى المدافن الجماعية للملايين من اليهود والغجر. 
جريمة شارلي إيبدو التي هزت الوجدان الفرنسي والعالمي كانت مهولة لدرجة الارتباك، واحتاج الأمر، على المستوى الرسمي والمدني، لتفادي كل الانزلاقات الخطيرة نحو العنصرية، إلى هبة وطنية كبيرة، عامة، خففت من تحميل العربي والمسلم الفرنسي والمهاجر الأجنبي، وزر وضع كان دائما هو ضحيته الأولى قبل غيره. بل ان العاصمة الفرنسية تحولت لمدة ساعات إلى عاصمة للعالم لتحسس خطر وحش تربى في أوروبا التي لها مسؤولية ما في تصنيعه، وفي الأرض العربية والإسلامية. لم يعد اليوم هذا الوحش بعيدا عنها هي التي ظنت لزمن طويل ترى أن ذلك لا يحدث إلا للآخرين، مع تواطؤ نخبوي معلن أو صامت.
بعد أن قتل هذا الوحش وأجرم، كما أراد في البلاد الإسلامية، باتهامات تبدأ من الخيانة ولا تقف عند الردة، لتنتهي في كل الأحوال، إلى قطع الرأس، وهو الخيار الذي أصبح يشد المتابع في مشهدية تكاد تكون سينمائية، وصل إلى الأرض التي كانت تبدو بعيدة ونسي العارفون والمختصون أن العالم أصبح حقيقة قرية صغيرة. لهذا، فالعالم كله في يوم 11 كانون الثاني/ يناير 2015، كان مصغيا بانتباه كبير لكي لا تذهب دماء الضحايا، كل الضحايا هباء منثورا، في يوم رمزي امتزجت فيه دماء ضحايا الأديان السماوية الثلاثة مجتمعة: اليهودي والمسيحي والمسلم. في ثانية واحدة خسرت البشرية فنانين كبارا وناسا طيبين ليس لهم إلا يومياتهم والوفاء لعملهم. مات أحمد المسلم. وأنقذ حسن باتلي المسلم أيضا، الكثير من اليهود الذين كانوا في المتجر اليهودي، قبل أن تشكك بعض النخب الصهيونية والمتطرفة المريضة في هذا الفعل الإنساني والعفوي.
العمل الإجرامي في المركز الثقافي والكنيس اليهودي في كوبنهاغن كان صورة مصغرة، لما حدث في باريس. علامات القاتل نفسها، والتكتيك نفسه. كان هذا الأخير على علم بالموجودين في قاعة المحاضرات، بالخصوص رسام الكاريكاتير الدنماركي، لم يفلح في مهمته اليائسة وإلا لقدم خدمة ضافية وسلاحا قاتلا للمتطرفين من أعداء العرب والمسلمين ولعمّق الأحقاد بين الجاليات المختلفة. في هروبه، مر القاتل أيضا على كنيس يهودي، وقتل أول من صادفه في مسلكه قبل أن يُقتل. بالنتيجة تحركت أوروبا وأمريكا وبقية العالم، من خلال الإعلام والنخب الثقافية لإدانة عمل جبان وإجرامي لا شيء يبرره، إلا العدمية التي تتسم بها هذه المجموعات التي لا قضية لها إلا المزيد من الرعب والتدمير الذاتي وخدمة أجندات مختلفة ومعقدة، كل يوم تتضح قليلا، لن تكون نهاياتها إلا ما بقي واقفا في الأراضي العربية. 
تجندت الإذاعات والقنوات والوسائط الاجتماعية في العالم لإدانة الجريمة مركزة على هوية المجرم العربية والإسلامية. عنصران في هذه الهوية القلقة يكفيان لإدانة أمة بكاملها. بل وجرها نحو مساحة هي بريئة منها ولا مسؤولية لها فيها. ما حدث في أمريكا أيضا يسير وفق المنطق نفسه على الأقل. فهو لا يقل إجراما عما حدث في باريس وكوبنهاغن، بل هو جزء من هذا الحقد الذي يكبر في الظلمة وفي صمت، راسما ملامح حرب حضارية؟ تشتعل في الأفق يتبناها تيار أصولي بالمعنى العرقي والسياسي والديني، من كل الأطراف واللغات ونخب مريضة ومتهالكة، لا لغة في أفواهها إلا الموت والدمار. مع أن لا شيء يبرر هذه الحرب الحضارية – البدائية لأن القتلة في كل الأديان. ثم أي خطر يشكله اليوم المسلمون على الغرب القوي والمزود بأسلحة الدمار الشامل؟ القصة معروفة طبعا وقديمة. تبليد الرأي العام وتهييئه لقبول كل شيء. يجب افتراض العدو الخطير لتكون الحرب القادمة عادلة، وإلا ما قيمة حرب تخاض ضد عدو متهتك؟ في ظل هذا الخوف، تنامى الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين بشكل كبير حتى تحول اليوم إلى إسلاموفوبيا حقيقية، لا تخفي عنصريتها أبدا في الكتابات اليومية والتحليلات التي تكاثر مختصوها فجأة، الذين لا يعرفون الشيء الكثير عن الإسلام إلا الأشكال الخارجية الجاهزة وما تعلموه في المخابر السياسية والعنصرية. تجندت لذلك نخبة لا تختلف كثيرا عن النخب المتواطئة والجبانة التي بررت، قبل أقل من قرن، جرائم النازية، بل ومهدت لها واعتبرتها دفاعا حيا عن النقاء الجرماني. وإلا ما معنى أن تعادى الآخر فقط لأنه مختلف دينيا، أو عرقيا أو لغويا أو حتى بسبب لونه؟ فانزلق الخطاب المدجج بالعداوة، والمسلح بإرث من الغباء الإعلامي المتداول من بقايا أساطين العنصرية، إلى الجريمة الموصوفة. وغاب المسلك الأسلم الذي يفرق بين الضحايا والقتلة حتى داخل الدين الواحد نفسه. بين المسلم الذي لا يريد إلا أن يكون مواطنا بحقوق وواجبات، والإسلاموي الذي أنجز إسلاما على مقاسه، خارج العصر كليا، وغرق في عدمية غير مسبوقة. كلما حدثت جريمة تسابقت هذه النخب الغربية المتطرفة، نحو توصيف الجاني العربي أو المسلم، حتى قبل أن تكشفه الشرطة. 
هذه المرة، كانت الجريمة مختلفة. لم يعد وجه الجاني عربيا ولا مسلما كما عودتنا يوميات الموت، ولكنه أمريكي في شكله وثقافته وردود فعله. ارتكب غريغ ستيفان جريمته بدم بارد في حق ثلاثة شبان عرب، في مدينة تشابيل هيل، في ولاية كارولينا الشمالية: ضياء شادي بركات 23 سنة، زوجته يسرى أبو صالحة 21 سنة، وشقيقتها رزان أبو صالحة 19 سنة. قتلهم بعبثية وبلا أدنى شعور بالذنب وكأنه قتل ثلاث حشرات، ثم سلم نفسه للشرطة. الجريمة لم تتوقف عند الموت الفجائعي، لأن هؤلاء الشبان قتلوا مرتين. الموت الحقيقي الذي أخذهم في عز شبابهم، والموت الرمزي، إذ لم يحرك الرئيس الأمريكي أوباما ساكنا إلا بعد ثلاثة أيام. ولا حتى وزير خارجيته جون كيري، الذي حضر وأدان مقتلة باريس، وصمت هذه المرة وكأن شيئا لم يكن. هناك مكيال غريب يستعمل اليوم. الجريمة جريمة ولا يمكن تبريرها مهما كانت الأسباب، وهي تنم عن إسلاموفوبيا تكبر بسرعة في عمق المجتمعات الأوروبية والأنكلوسكسونية المعاصرة مذكرة برائحة عالم شبيه ليس بعيدا عنا. نفهم جيدا ردود فعل الشباب المسلم الذين احتجوا يوم الدفن أمام قناة BBC نظرا لصمتها وصمت بقية وسائل الإعلام، وكأن الأرواح التي أزهقت ظلما لا تساوي الأرواح الأخرى. هذه هي العنصرية بعينها التي تؤجج الخلافات والانشقاق وتعمق الأحقاد. يبدو أن الدرس الفرنسي لم يُفد كثيرا المجتمعات الغربية تحديدا، في أنسنة مجتمع عالمي يسير كل يوم خطوة نحو حتفه.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *