أهل السودان


محمد امين ابوالعواتك*



القاسم المشترك في وصف الاخرين لاهل السودان ( وصف المجموعات السكانيه التي انصهرت في المنطقة غربي ساحل البحر الاحمر وحتى أفريقيا جنوب الصحراء ) كان على الدوام ايجابيا وموسوما ومحددا بصفات حسن الخلق الذي هو الدين ولاجله اتت الرسالات السماوية جميعها لوضع اسس وبناء مجتمع الاخلاق الفاضلة، وقد اعجبت بتعريف حسن الخلق عند ذلك المغاربي (المحب) القاضي عياض صاحب الشفاء بأنه الاعتدال في قوى النفس واوصافها والتوسط فيها دون الميل الى منحرف اطرافها وهي حالة جماع (الاخلاق والاداب) من الدين والعلم والحلم والصبر والشكر والعدل والتواضع والعفو والعفه والجود والشجاعه ومسألة (التوسط فيها) هي مربط الفرس وهو تبيان مهم وربط متسق مع هدي اخر وهو (خير الامور الوسط) فجميعها في كمالاتها هي خلق نبينا الاكرم (ص) وهذه الاضافة الاخيرة لذلك التعريف من عندنا ضرورية لأنها تكمل الوضوح وتجمّل المعنى وتربطه بالأنموذج الإلهي للكمال الانساني سيدي رسول الله (ص) والذي هو لعلى الخلق العظيم والممدوح به أزلا قرآنا يتلى. 
لقد كتب الكثير عن السودان، فالسودان بالمعني الواسع يمتد من الشاطئ المقابل لجزيرة العرب الي ان تصل البحر المحيط من الجهة الاخري ويقول بروفسور عبد الله الطيب ان لفظ السودان عام حيث ان الجاحظ في كتابه (فضل السودان على البيضان) يدخل في السودان اصناف السودان من خارج افريقيا مثل الهنود في هضبة الدكن وجماعه من الجاويين وكثير من سكان ما وراء البحر في المحيط الهادي وهكذا … الا أنه حصر في الأيام الاخيرة في سودان افريقيا والذي يطلق على جزء منه النوبة ونص (صاحب القاموس) ان دنقلا هي قصبة بلاد النوبة، ويطلق على جزء آخر منه البجا لكن عمومه كان يطلق عليه اسم الحبشة وبرفسور عبدالله الطيب هو اول من تحدث بان هجرة الصحابة رضي الله عنهم كانت الى السودان الحالي وصدر كتاب بعد ذلك من برفسور الشيخ حسن الفاتح قريب الله في هذا الخصوص ويواصل برفسور عبد الله الطيب بنكهته تلك ويقول انك عندما تتحدث عن السودان تحتاج ان تحدد عن اي سودان تتحدث لأن هذا الموضوع شاسع الاطراف و تحتاج الى مجال فيه بعض الضيق وفيه بعض الحدود حتى تستطيع بيان واستعراض التفاصيل والاثار الخاصة به الا ان الامر المؤكد هو ان نتاج هذه التوليفة البشرية في سودان اليوم كان مجتمعا فاضلا” بدرجة كبيرة وذلك لان الدين قديم في هذه البلاد ووجود الاثر الديني اليهودي والمسيحي امر مثبت في اماكن العبادة والوضوء والتضحية التي تم اكتشافها علي مر الزمن” ويواصل بروفسور عبد الله الطيب عن اصول الثقافة السودانية متطرقا الي ان النبي موسى عليه السلام تزوج بامراة من كوش في سفر العدد وقدم روؤس مواضيع عن البجا والبشاريين واليهود الفلاشا وموقع مدين واعتقاد المصريين انها تجاه اقصر الحالية الا ان البحث المتكامل في هذا الموضوع قام به الشيخ النيل عبد القادر ابوقرون في كتابه الهام (نبي من بلاد السودان) والذي قدم فيه قراءة محكمة من القران والآثار تبين ان مسرح الاحداث هو سودان اليوم وأن البحر الذي عبره سيدنا موسى عليه السلام ما هو الا نهر النيل. 
اما المسيحية فقد دخلت هذه البلاد قبل ان تدخل اوروبا ويذكر بروفسور عبد الله الطيب في حديثه المشار اليه في ماتقدم ان بعض المؤرخين يريدون ان ينسبوا دخول المسيحية الى فترة متأخرة من القرن السادس، ولكنه يستدرك على ذلك في ان هناك ادلة كثيرة على دخول المسيحية السودان قبل ذلك بكثير ومن الانجيل نفسه وأن احد الذين شهدوا ميلاد المسيح كان من السودان، وأن المسيحية التي ازدهرت في علوة والمقرة كانت من نوع مختلف عن تلك التي في الحبشة ومصر والتي هي يعقوبية قبطية اما مسيحية الوسط فكانت اقوى صلة بالملكانية التي كانت في ناحية القسطنطينيه وهناك اثار تدل علي ان هناك ديانة يهودية سبقتها في هذه البلاد.

والتوسط في قوي النفس الذي اشار اليه القاضي عياض الذي هو حسن الخلق والربط مع (خير الامور الوسط) في ما سبق يقودني الي الذي خلصت اليه من هذا السرد التاريخي والذي يوضح سلاسة انتشار الرسالات السماوية والايمان بها عند اهل السودان الذين هم اهل كتاب واهل رسالة خاتمة وهم مثال باهر للهيمنة المذكورة في القران والتي لا تعني بأي حال من الاحوال الغاء ما سبق من الهدي الالهي في رسالات سابقة بل شمولية الرسالة الخاتمة لها وخير معبر عن هذ الوضع الفريد ايضا الاية ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) فوسطية اهل السودان لها عدة مستويات فنحن امة وسط جغرافيا وهذا واضح في موقعنا، وامة وسط عنصرا فلا نحن من العرب الاميين ولامع الزنج الحاميين، كما اننا لسنا عربا ولكننا نتحدث غالبا بالعربية ، وامة وسطا في الدين في توازن ما بين الدين والحياة والروحية والمادية و تاريخ خصب وحضور كما بينا مع الرسالات السماوية من قبل ان يتنزل الهدي السماوي على امم اخرى كأهل الرسالة الخاتمة وهم الاميون والأمية هنا ليست أمية كتابة وقراءة كما يعتقد البعض، وكما اوضح الشيخ النيل ابوقرون في كتابه (الايمان بمحمد) فقد كانت هناك معلقات في الكعبة، ولكن الامية بسبب عدم بعث رسالة وكتاب سماوي مقدس لهم في جزيرة العرب، والذي حدث بعد ذلك في بعثة سيدي رسول الله (ص) ، لذا تجد اساس الاخلاق والمعاملة الفاضلة راسخ واصيل عند اهل السودان رسوخ الهدي الالهي القديم والذي اكتمل ببعثة خاتم الانبياء(ص) والذي بعث متمما لمكارم الاخلاق التي وضعت اساسها رسالات سماوية سابقة لذا حاز اهل هذه البلاد على كل الخيرات على الدوام وكانوا حضورا وشهودا لكل الفيوضات الالهية على مر الزمن وهو امر نادر وهام في خصوصية مميزة لاهل السودان داخل الامة الكبيرة التي هي خير امة اخرجت للناس بمقياس الاخلاق وقيم الحب الالهي وليس باي مقياس اخر.
هذه الخصوصية لاهل السودان امر مقدر وتثير كل يوم قدرا كبيرا من الاهتمام فكل ميسر لما خلق له والله سبحانه وتعالى فعال لما يريد اذ لا صدفة ابدا في ان تختفي جميع تسميات السودان التاريخية الاخرى كالسودان الفرنسي وغيرها ولا يبقى الا السودان الحالي ، حتي عندما اختار اخوتنا من اهل جنوب هذه البلاد الانفصال عن بلاد السودان لم يملكوا الا ان يسموه السودان ايضا رغم كثافة التعبئة ضد كل ماله علاقة بهذا الاسم ولكنها المشيئة ولانحتاج للابانة عن فضل السودان في المبشرات النبوية المختلفة والتي يجتهد البعض في التقليل من قيمتها بالوسائل (المعروفه تاريخيا وبحثيا) والتي ادخلت اهل الرسالة الخاتمة اليوم في (جحر ضب) وهي خصوصية لم تكن الا لبيت المقدس وبلاد الشام ومن الطبيعي ان يكون هناك وصل بين اهل بلاد الرسالة السماوية اللاحقة مع اهل الرسالة السماوية السابقة ومن هنا تقرأ علاقات الهكسوس القديمة مع كوش وهي علاقات مثبتة اليوم.
الأجيال اللاحقة من اهل السودان لم تدرك هذه الحقائق والادوار الحضارية ولعبت ادوارا مدمرة وضلت طريق الحضارة الذي مهدته الاجيال السابقة وتؤكده الان الفتوحات الاثريه الكبرى لحضارت كانت الاصل في كل الدنيا وتميزت عن ما جاورها من حضارات وبرعت وتطورت في الصناعات والمعمار والزراعه والتقنيات في زمن كانت فيه البشرية تغط في نوم عميق وكل هذا بسبب التفريط المتنامي في راس مال ومعلم (هوية) هذه الامة وهو (الاخلاق) وتنامي (امراض النفس) التي هي (افة الاخلاق) بسبب البعد عن مقصد الرسالات السماوية وكذلك غشيتنا من بعد، رياح بعض (التيارات) نهاية القرن الماضي ساهمت بشدة ايضا في حدة القطيعه مع ذلك التاريخ المجيد وتعصف بما تبقي من حكمة واخلاق موروثة صاغت اهل السودان بدفء المشاعر الانسانية وصحيح سنة الرساله الخاتمه منذ القدم فكان من نتاج هذا النهج ارتداد اطراف ارض السودان الجغرافي وانكماشاها بل وانغلاقها علي القبليه كمحصله طبيعة لنهج مجاعة الاخلاق و الوصايا والتسلط الذي لم يتبعه الانقياء الاوائل .

• اعلامي وباحث من السودان

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *