*مايا الحاج
حين تتوغّل في قراءة رواية «كالماء للشوكولاتة» (دار بلومزبري- ترجمة صالح علماني) للمكسيكية المعروفة لاورا إسكيبيل، تستحضرك مقولة برنارد شو الطريفة «ليس هناك حبّ أصدق من حبّ الطعام». ومع ذلك، فإنّ الرواية لا تقتفي سيرة رجلٍ شرهٍ أو أكول، بل حكاية امرأة امتلأ قلبها شغفاً بحبٍّ مستحيل، فاستعاضت عن العشق بفنّ الطعام. وبدلاً من أن تكبت رغبتها في أغوار نفسها، فجرت البطلة أحاسيسها الإنسانية، أو الأصحّ الأنثوية، في وصفات مختلفة يُمثّل الحبّ المكوّن الرئيسي فيها.
قد لا يعني عنوان الرواية «كالماء للشوكولاته» شيئاً للقارئ العربي، أو حتى الأوروبي، والدليل تعديل العنوان بترجمته الفرنسية إلى «شوكولاتة مُرّة» مثلاً. ولكن، لو درسنا العنوان الأساسي في إطار المكان الذي تدور فيه الأحداث وخصوصيته، لوجدناه موحياً، بل مؤثراً أكثر من أيّ عنوان آخر. فالرواية ترصد أحداثاً تجري في المكسيك، حيث تُستخدم عبارة «كالماء للشوكولاتة» لتدلّ على درجة الغليان الحسّي لدى المرأة أو الرجل. وقد استوحيت هذه التسمية من المطبخ المكسيكي الذي يعتمد في صناعة الشوكولاتة، على خلاف الدول الأخرى، الماء بدلاً من الحليب. وترتبط هذه الفكرة بصورة الماء الذي ما إن يصل إلى درجة الغليان حتى تُضاف إليه الشوكولاتة لتذوب فيه وتأخذ من ثمّ طعمها السحري الرائع.
من القلب إلى المطبخ
يختزل العنوان الرئيسي فكرة الرواية، أو بالأحرى الحالة التي يعيشها بطلا الرواية، تيتا وبيدرو. لقد أحبّ كلاهما الآخر من أول لقاء بينهما، إلاّ أنّ ظروفاً اجتماعية قاهرة أبعدت بينهما من غير أن تُفرّق أحدهما عن الآخر. فحين اعترف بيدرو لتيتا بحبّه ونيته الزواج بها، كشفت له هي أيضاً عن مشاعرها القوية تجاهه، لذا قرّر أن يطلب يدها من والدتها التي جابهت طلبه بالرفض بسبب قانون عائلي يقضي بعدم تزويج الإبنة الصغرى للعائلة إلى حين وفاة والدتها، حتى تضمن كلّ أمهات العائلة بقاء ابنة ترعاها وتهتم بها في شيخوختها.
لكنّ الأمّ «المتسلّطة» تعرض على بيدرو الزواج من ابنتها الكبرى روساورا، فيوافق بدوره على هذا «العرض» الجنوني بغية البقاء إلى جانب معشوقته الأولى والأخيرة، تيتا. هكذا يجتمع العاشقان المحرمان داخل بيت واحد، فتغدو النظرة العابرة بينهما أشبه بشرارة تُشعل نار الشوق في قلبيهما. كلاهما يعيش درجة الغليان نفسها، فيصير كل واحد منهما للآخر تماماً كما الماء للشوكولاتة. واللافت أن هذا التشبيه المُستعار من المطبخ للإشارة إلى درجة التأجّج الحسّي، إنما يتكرر على امتداد الرواية لتغدو هذه التشابيه الوفيرة في النصّ أشبه بـ «حيلة» بديعية تكرّس ذاك التوازي بين العطش الجسدي والشغف المطبخي. «أدركت بالضبط ما لا بدّ لعجينة الزلابية أن تشعر به عند ملامستها الزيت المغلي. كان حقيقياً جداً الإحساس بالحرارة التي اجتاحت جسدها كلّه إلى حدّ خشيت معه أن تبدأ فقاعات بالتقافز، مثل عجينة الزلابية» (ص 24)، أو «هي تتكلّم عن الجهوزية للزواج كأنها تتكلّم عن وجبة خفيفة من الأنتشيلادا».
الواقعية السحرية
مثلما الحبّ هو قدر الإنسان، المطبخ هو قدر تيتا. لقد وُلدت الإبنة الصغرى لخوان وإيلينا دي لا جارثا، في المطبخ قبل موعد ولادتها، نتيجة نفاذ روائح البصل والكزبرة والثوم إليها وهي في أحشاء أمها. هكذا، ومن دون مقدمات، خرجت تيتا إلى العالم لتجد نفسها فوق منضدة المطبخ وسط رائحة حساء شعيرية كانت أمها تطهوه. ولما توفي والدها بعد أسابيع على ولادتها، انقطع الحليب من ثديي أمها إيلينا لشدة حزنها على موت زوجها، فأخذت المربية والطاهية ناتشا تهتم بها وتصطحبها معها إلى المطبخ لتزوّدها بشاي الأعشاب المتنوعة وأصناف من «الأتوليه». لذا، تطورت حاسة الشم عند تيتا، ومن ثم حاسة الذوق، لتُصبح بعد ذلك أمهر طاهيات العائلة، والحلقة الأخيرة في سلسلة طاهيات تناقلن، منذ الحقبة ما قبل الإسبانية، أسرار المطبخ جيلاً بعد جيل، إلى أن غدت هي «أفضل ممثلة لهذا الفن العجيب، فن الطبخ». وقد جاءت صدمة حبّها لتؤجج شغفها، ما انعكس على وصفاتها اللذيذة: «كانت تنهمك بيأس في ابتكار وصفة طبق جديد كي تستعيد العلاقة التي نشأت بينها وبين بيدرو من خلال الطعام. وفي فترة العذاب تلك، ولدت أفضل وصفاتها» (ص 75).
تنتمي رواية «كالماء للشوكولاتة» – التي صدرت عام 1989 واعتُبرت واحدة من أهم روايات الأدب اللاتيني – إلى مدرسة الواقعية السحرية، وقد كتبتها لاورا إسكيبيل بلغة جميلة مجبولة بروائح الخبز الساخن والحليب المغلي والبهارات الشذية.
تكمن السحرية في وصفات تيتا نفسها. فهي تعتني بها وتحضّرها بشغف عاشق ولهان، لا سيما بعدما صار الطبخ متعة حقيقية تستعيض بها عن متعة الغرام. لذا، نجد أنّ الأطباق تخرج بمذاق رائع ومنظر مدهش، ومن شدة روعتها تُخلّف في متذوّقها أحاسيس غريبة. فحين اختلطت دموع تيتا بخليط قالب الحلوى (كانت تحضرها لحفلة زفاف حبيبها بيدرو وشقيقتها روساورا)، خلّف طعم حلوى «تشابيلا» نوستالجيا عجيبة في نفوس الحاضرين، فانهمرت الدموع من المُقل واجتاحت القلوب نوبات حنين، وانساق الجميع خلف ذاك الطعم المذهل كانسياق الناس خلف رائحة «العطر» في رائعة باتريك زوسكيند. ولما اختارت أن تصنع من باقة ورود أهداها إياها بيدرو طبقاً لذيذاً هو «طيور السمّان مع بتلات الورد»، غرزت شوكة في إصبعها فسقطت قطرات من دمها داخل الجرن، فتبدّل مذاق الطعام واكتسب قدرة على إيقاظ الشهوة في أبدان كلّ من تناوله
تبدو الرواية في ظاهرها بسيطة البناء والتركيب. تتوزّع الأحداث على فصول بعدد أشهر السنة (من يناير إلى ديسمبر). وتستهلّ الكاتبة كلّ فصل بوصفة ترتبط بذكرى أو حادثة معينة في حياة البطلة. وبذلك، يكتشف القارئ، صفحة تلو أخرى، أنه أمام نص جميل يُماهي بين حالتين متباعدتين، الأولى روحانية (العشق) والثانية مادية (الطعام). ولكن، لو أردنا البحث عميقاً في هذا العمل كصنيع روائي، لوجدنا أنّه يخفي جهداً فنياً يتجلّى في أكثر من موضع. فالأحداث تتوزّع بين زمن السرد، وزمن الفعل (الحدث).
الأوّل متصّل بالراوية – حفيدة روساورا (شقيقة تيتا) – وهي ورثت عن أمها (اسبرانثا، ابنة روساورا وبيدرو) كتاب تيتا الذي دوّنت عليه ألذّ وصفاتها المتداخلة بطريقة عجيبة مع سيرة حياتها. أمّا الأحداث فتعود إلى مطلع القرن العشرين، أيّام الثورة المكسيكية، وهي تبدأ مع ولادة البطلة تيتا، مروراً بقصة حبّها لبيدرو وشغفها بالطعام، وصولاً إلى اللقاء الحميمي المنتظر بين الحبيبن (تيتا بيدرو)، بعد مرور اثنين وعشرين عاماً، بمشهد يُذكّرنا بلقاء فيرمينا وفلورنتينو في «الحبّ في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز. أمّا اللغة فجميلة بصورها وعباراتها الخفيفة الظلّ، وقد تمكّن المترجم صالح علماني من الحفاظ على الروح المكسيكية التي يتسّم بها العمل.
«كالماء للشوكولاتة»، رواية ممتعة تزاوج بين غذاء الروح (الحب) وغذاء الجسد (الطعام) بأسلوب فني مُبتكر. هي تُقدّم حكاية حبّ مستحيلة، إنما بعيدة عن الميلودرامية، بحيث أنّ مرارة الغرام تختلط مع ذروة الإبداع، باعتبار أنّ الفراق يفتح أمام تيتا طاقة تصدّر منها شغفها المكبوت عبر أطباق تزيد بيدرو ولعاً بها.
____
*الحياة