الدكتور يوسف إسماعيل *
من المعلوم أن من بدهيات التحول الثقافي في تاريخ أي أمة توافر مجموعة من العناصر الفاعلة حضاريا في الثقافة العامة للمجتمع ، وذلك بناء على مجموعة من المعطيات الواقعية التي تفرز بنى فوقية تكون دافعا نحو تغيير الحالة الاجتماعية . ومن أُوَل تلك العناصر الفاعلة حضاريا :
ـ انفتاح الثقافة الخاصة على الثقافات العالمية للشعوب والأمم الأخرى ؛ إذ لا يمكن الحديث عن نهوض ثقافي لمجتمع ما لا يؤمن بفائدة الثقافات المغايرة له ؛ إما من الناحية التكاملية أو من الناحية التحريضية الموازية أو من الناحية التفاعلية البناءة . والأخذ بتلك البدهية يمنع المجتع من التقوقع حول الذات والانغلاق عليها ، ذلك الانغلاق الذي يؤدي إلى التضخم المرضي الموهم بالصحة والعافية . وقد أثبتت حالات النهوض في تاريخ البشرية ذلك . فالحضارة الفرعونية كانت نتاج تفاعل ثقافي مع الحضارة البابلية و الآشورية والفينيقية و الفارسية واليونانية والرومانية ، والحضارة اليونانية هي محصلة تفاعل مع تراث الشرق القديم ، والحضارة العربية الإسلامية هي مزيج من التفاعل بين ثقافت متداخلة بفعل تداخل الجنسيات والقوميات في المجتمع العربي بالإضافة إلى الجهود المضنية التي بذلها العلماء في الترجمة والتأليف والبحث والزيارات والبعثات العلمية .
ـ احترام الثقافات المغايرة : لا يمكن ـ من حيث تكامل العناصر الفاعلة ـ تحقيق المبدأ السابق من دون احترام الثقافات المغايرة إن كلن داخل المجتمع ؛ أي المغايرة للفئة أو المذهب أو الدين أو الطائفة ، أو كان خارج المجتمع بوصفه مجموعة متجانسة من البشر تعيش في بقعة جغرافية واحدة وتخضع لمجموعة من الأنساق الثقافية التي تميزها عن غيرها من المجتمعات كالمجتمع العربي أو المجتمع اليوناني أو المجتمع الروماني أو المجتمع الفارسي . والغاية من هذا المبدأ التركيز على استبعاد الإقصاء الثقافي داخل البنية الاجتماعية لأي مكوّن ثقافي من مكوّنات المجتمع ، وكذلك استبعاد الإقصاء الثقافي لأي مكوّن من خارج الإطار المجتمعي يمكن أن يكون فاعلا في إغناء الثقافة المجتمعية العامة للأمة . وقلنا هنا الثقافة المجتمعية العامة للأمة لأننا نريد لفت الانتباه إلى أن التثاقف الحضاري بين المجتمعات يهدف إلى التواصل بين الأنساق الثقافية العليا للشعوب بغية تطوير الأنساق الثقافية العامة للمجتمع بشكل عام ؛ أي بكل مكوناته المختلفة أو المتناقضة وليس بغية تفاعل ثقافي خاص بمكوّن من مكونات المجتمع .
ـ الانتماء للمكوّنات الثقافية المجتمعية : ونعني بذلك الاعتزاز بثقافة الأمة وتاريخها ومكوناتها ، ومن دون ذلك لن تتوافر الحوافز في المجتمع للنهوض المجتمعي ، وسيتبع ذلك الإحساس بالدونية والتبعية للشعوب التي برزت حضارتها قبل ذلك . ومن حوامل ذلك الإحساس تثبيط العزيمة والركون الفكري والثقافي لما أنتجته الحضارات الأخرى ، والعمل في أحسن الأحوال على النقل والتصنيف والتبويب كما حصل في المجتمع العربي بعد القرن الرابع الهجري وما تلاه في عصور الدول المتتابعة . غير أن ذلك الاعتزاز يجب ألا يتعدى حدوده الإيجابية الفاعلة ثقافيا وتنقيته من مفهوم الشمولية العمياء وتجريده من المفاهيم العنصرية بكل ألوانها ؛ فمن دون ذلك سيغدو الاعتزاز تعصبا وانكفاء على الذات ونكوصا نحو الأنا المتضخمة المريضة ؛ مما يحيل الأنا إلى الاضمحلال الحضاري والانكماش الثقافي والركون إلى الإقصاء بوصفه الوسيلة الأولى نحو العنف بكل أشكاله داخل المجتمع وخارجه ؛ مما يؤدي إلى تفتت البنية الاجتماعية وضياع بوصلة الحضارة المجتمعية بين شعوب الأرض ومكوناتها الثقافية.
غير أن ديمومة التحول الثقافي أمر في غاية الصعوبة والتعقيد ويكاد يكون مستحيلا في تاريخ الشعوب والأمم إذ سرعان ما تتحول الشعوب المتفاعلة ثقافيا إلى التمركز حول الذات فتنهض الصراعات الداخلية والخارجية وما يغذيها من إقصاء وتعصب فتنهار الحضارة عند الشعوب وتنتقل إلى أمة أخرى وموقع آخر .
ولهذا الإطار خضعت الحضارة العربية ؛ فمع تمدد الخلافة الأموية ثم العباسية بعد الخلافة الراشدية تنوعت الأنساق الثقافية للمجتمع الخاضع لسلطتها بل إنها دخلت في إطار تناحري بسبب التمركز حول الذات ، وكانت معطيات التناحر الثقافي تأخذ صورا إقصائية عبر تضخم الذات ، تمثلت في الصراع على السلطة بين القوميتين أحيانا أو بين مذهبين دينيين أحيانا أخرى أو بين أنساق ثقافية متناقضة . وكان الشعر ـ بوصفه تجليا فنيا للتحول الثقافي والتناحر ـ صورة بارزة لذلك الصراع عبر ما يفرزه من أساليب تُقرأ سياسيا وإن كانت تتبدى ثقافيا ؛ فحين يهاجم أبو نواس الوقوف على الأطلال أو يتمرد على القصيدة العربية النمطية لا يمكن في ظل ذلك الصراع مدحه بوصفه مجددا ومستوعبا فذَّاً للتحول الثقافي في المجتمع ؛ لأننا سنجد من سيقرأ في تمرده موقفا عنصريا وشعوبيا ، وحين يتغنى بالخمرة والغلمان سَيَقرأ في نصوصه زندقة خارجة عن النسق الثقافي للمركزية الإسلامية في ثقافة المجتمع الجديد .
وفي ضوء ذلك التناحر السياسي المتبدي ثقافيا ستشوِّه المركزية الإسلامية بحكم هيمنة الدولة الدينية ما يغاير أنساقها الثقافية ، بل ستناهض التحوّل الثقافي الذي يموج في داخلها بوعي زائف بسبب تحول الفواعل السابقة الذكر إلى عوامل تثبيط بدلا من النهوض والتطور. بمعنى أن انفتاح الثقافة الخاصة على الثقافات الأخرى سيأخذ شكلا استلابيا لصالح الثقافة المركزية ، واحترام الثقافات الأخرى سيكون توليفات لفظية متجاورة صامتة تنتظر لحظات ساخنة سرعان ما تنفجر في حالة ضعف السلطة المركزية ، والانتماء للمكونات الثقافية المجتمعية سيكون تعصبا يعيش على الإقصاء و التناحر . وستكون النتيجة الحتمية لذلك الصراع السياسي وتلك المركزية تشويه يمتد قرونا للمنتج الثقافي المغاير ـ وحامله ـ لأنساق الثقافة المركزية وعامل إحباط في الوقت ذاته للتحوّل الثقافي المبني على التفاعل والاحترام وتعزيز الثقافة المجتمعية العامة بكل مكوناتها .
غير أن العنصر الأخطر في ذلك التشويه هو تثبيت مقولاته النقدية / الثقافية في الوعي النمطي للأمة بوصفها بدهيات لا تحتاج بعد ذلك للمراجعة والنقد ، وهكذا تتناقلها الأجيال في التربية والتعليم والحوارات والندوات الثقافية والكتب والمؤلفات التاريخية والأدبية ، وتتحول إلى ثقافة مضادة للأنساق الثقافية السائدة تُقرأ بحياء أو خفاء أو بتهكم وازدراء أو تندّر على سبيل المسامرة أو الفحش أحيانا حين تستهوينا المحرمات على صوتنا الواضح والمعلن . وبذلك نثبِّت القراءة المشوِّهة للمنتج الثقافي القادمة من تحت عباءة الصراع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي ، ونمعن في قراءة مغلوطة للتراث غير فاعلة في نهوض الواقع الراهن في حين كان علينا أن نقرأها بعين فاحصة ومحايدة ورافضة لمفهوم البدهيات المطلقة ونراها بعين فواعل التحول الثقافي المذكورة قبل أن تتحول إلى عوامل إحباط وتراجع وتناحر .
إن الثقافة المضادة وفق ذلك تتكون بفعل التشويه بالدرجة الأولى إن استعصى على حماة الثقافة المركزية الإقصاء ؛ فقد تكون الثقافة المضادة عصية على الإقصاء بسبب شعبية خطابها من حيث الرؤية الاستراتيجية لأحلام الأمة كما في السير الشعبية أو بسبب حواملها الفنية العالية كما في أشعار أبي نواس أو بسبب ارتباطها بالمرحلة الشفوية بتاريخ الشعوب كما في الحكايات الشعبية أو بسبب صوتها الجارح المناهض للتأدب المزيف والشعارات البراقة الكاذبة كما في أشعار مظفر النواب أو بسبب موضوعيتها المتنافية مع الأنساق القيمية في المجتمع كما في دراسات نوال السعداوي عن المرأة عامة والعربية خاصة ..ولأن الإقصاء يصبح فعلا ناقصا هنا ، يكون التشويه سلاحا جوهريا في مقاومة الثقافة المضادة التي تحمل دوافع انتشارها اجتماعيا في داخلها ، بل إنها تقوم بفعل معاكس يأخذ شكلا تحريضا يبلوره الوعي الإقصائي أو التشويهي ذاته ضد ذاته دون وعي بأبعاد التشويه أو الإقصاء بسبب التقوقع على الذات والنظرة الفوقية المتخذة من الأنساق الثقافية المغايرة . فالوعي التشويهي هو وعي متعصب للرؤى والمعتقدات والثقافات الخاصة ؛ إذ لا يرى في الاختلاف تنوعا و إغناء بل تهديدا له و لأنساقه الثقافية ، ويرى في الثقافات المغايرة تحريضا على هدمه وتدميره ، فتشويهه ـ إن استعصى الإقصاء ـ هو منهجية استراتيجية تستمر مع الأجيال إن لم تلتحق تلك الأجيال بنهضة شاملة تمس القيم والمعتقدات والمواقف والرؤى الثقافية للأمة .
ولكن منتجات التشويه التي تلصق بالثقافة المضادة هي التي تبلور الخطاب التحريضي السلبي فيها من خلال القراءة المغلوطة المشوِّهة ؛ بمعنى أن القراءة السطحية مثلا للسير الشعبية والوقوف عند لغتها العامية بدافع غير واعٍ بشمولية ثقافة الأمة يظهر أن قراءة السير الشعبية يشجع على العامية ، في حين أن الأدب الشعبي أوسع من مفهوم القائمين على الحفاظ على اللغة العربية الفصحى ، فالتعلق بالسير الشعبية وانتشارها في مرحلة تاريخية مهمة في حياة الأمة كان بدافع التعبير عن أحلام الشعب ضد مغتصبي تلك الأحلام وفشلهم في التعبير عن أمانيه . وكذا الأمر مع شعر مظفر النواب الذي عبر عن سخط المحكومين على الحكام بصورة ساخرة وبلغة مهينة فاضحة ينطق بفحواها وبصيغها أحيانا الشعب المقهور و المفجوع بحكامه … وبذلك تصبح الثقافة المضادة خطابا تحريضيا إيجابيا وليس سلبيا كما أراد لها مشوهوها .
إن ذلك الموقف يؤدي في النتيجة إلى الوقوف ضد التحوّل الثقافي الفعّال في تاريخ الشعوب ، وقد يكون فعلا انتكاسيا تدفع ثمنه الأمة عبر أجيال متوالية كما هو حاصل في المجتمعات العربية . ووفق المرحلة الزمنية الطويلة تضيع قضية تحديد المسؤولية في ذلك الإخفاق الحضاري إذ لا يمكن التعبير عنه بغير الوعي التشويهي والإقصائي والعقل النقلي والتمجيدي المتعصب لرؤاه الخاصة حول الوطن و الثقافة و الدين و القيم ومفهوم المشاركة .
ولأن المسؤولية وفق ذلك هي مسؤولية شمولية ؛ سياسية وثقافية وتربوية وتعليمية ، تبرز أهمية الوعي بإعادة الاعتبار لقراءة الثقافة المضادة بأدوات إجرائية موضوعية تضع النص الثقافي في حيزه الحضاري وفعله الإيجابي دون تشويه أو إقصاء . ولا يمكن إنجاز ذلك بعد الانتكاسة الطويلة في الثقافة العربية إلا عبر هدم البدهيات الثقافية والتحريض على النقد والتفكير بدافع الرؤية الشمولية للثقافة العربية بتنوعها وإنجازاتها وانكساراتها بعيدا عن تحميلها موقفنا السياسي أو الديني أو الأخلاقي ، ونعطي ما لقيصر لقيصر .
وكان من صور الثقافة المضادة في تراثنا الثقافي شعر أبي نواس الذي سنقف عند نص له في التحليل لرؤية ما كان وما يجب أن يكون ، آخذين بعين الاهتمام الأفكار السابقة وخطابه الثقافي التحريضي وصور تشويهه بقراءة تأويلية تساعدنا في توضيح الرؤية التي نطرحها .
أبو نواس
تلونت أخبار أبي نواس في كتب الموسوعات العربية ، فقدمته بصور متناقـضـــــة بين
التدين والإلحاد ( 1 ) و التأدب والفحش( 2 ) و الجد والهزل ؟ (3) و الكرم والبخل (4 )و الشعوبية والعروبية (5) و الإسلاموية والدهرية ( 6 ) و الغنى و الفقر ( 7 ) و عفة النفس والتسول (8 )غير أنه حظي بشهرة واسعة بين عامة الناس ، بل إن العقاد (9 ) فصل بين شخصيتين متداولتين ؛ الأولى شخصية طريفة ، في أخبارها مفاجآت وقصص وحكايات وطرائف ومواقف مضحكة تضاهي شخصية جحا في التراث الشعبي . والثانية شخصية أدبية تاريخية محددة بالشعر وبعض الأخبار ولكنها لا تحدث قطيعة مطلقة مع أخبار الشخصية الشعبية ، بل إن أخبار الشخصية الشعبية توظَّف من قبل الوعي التشويهي لدعم الصورة النمطية التي أراد ت لها المؤسسة النقدية الرسمية تثبيتها عن أبي نواس الشاعر لإقصائه وتهميشه .
عاش أبو نواس الشاعر في منتصف القرن الثاني الهجري بين الكوفة والبصرة وبغداد حيث كان المجتمع الإسلامي ـ والعربي منه بشكل خاص ـ يعيش تحولا ثقافيا كبيرا في الفلسفة والعقائد والسياسة والحياة الاجتماعية والفكرية ، وعمّ الازدهار والرخاء وقدر كبير من حرية التعبير والاعتقاد ، وحظي الشعر بروح التجديد والتعبير عما يموج به الواقع من نمط الحياة الجديدة .
وتقول الأخبار عن أبي نواس : إنه كان ابن عصره ، يلتقط بإبداع تلك الحساسية الجديدة في الحياة الثقافية . وتبيّن القراءة الواعية لأشعاره أنه كان شخصية إشكالية تحمل نزعات متعددة محرِّضة داخل الأنساق الثقافية المركزية التي تمثلها المؤسسة النقدية الرسمية التي لم تتوان عن تشويهه حتى اللحظة الراهنة ، فهاجمته من خلال البحث في أشعاره عن موقفه الساخر من المقدمة الطللية باعتباره موقفا سياسيا شعوبيا عدوانيا لا علاقة له بالتجديد أو الموقف من التيار الثقافي الكلاسيكي ؛ ومنه خلصت إلى البحث عن ألفاظه الفاحشة أو تغنيه بالخمرة والتغزل بالغلمان لاتهامه بالزندقة والكفر . يقول محمد مندور في كتابه النقد المنهجي عند العرب : إن سخرية أبي نواس من البكاء على الأطلال، لم تكن دعوة إلى التجديد، وإنما هي في الواقع محازاة للقديم والمحازاة أخطر من التقليد، لأن أبا نواس في رأيه حافظ على الهياكل القديمة للقصيدة العربية مستبدلا ديباجة بأخرى ( 10)
ومثله يجد الدكتور عبد القادر القط تفسيرا أخلاقيا لسخرية أبي نواس من وصف الأطلال، مؤداه أن هذه السخرية ، لم تكن تعبيرا عن تجديد فني خالص ، أو ثورة على القيم الشعرية القديمة بل هي لا تعدو أن تكون (سلوكا ذا دلالة حضارية ونفسية خاصة، لذلك لا يقابله بالدعوة إلى مذهب فني، بل إلى سلوك آخر يناقضه، فإذا كان الشقي قد عاج يسائل الرسم، فإن الشاعر قد عاج ليسأل عن خمارة البلد، وهو لا يريد أن يبكي ليلى أو يطرب إلى هند، بل يقدم بديلا من ذلك دعوة إلى الشراب. وهكذا نراه يكرر، بعد كل دعوة إلى نبذ الوقوف بالأطلال ، أمرا بسلوك خلقي لا اتجاه فني، فيقول “واشرب على الورد من حمراء كالورد، واشرب من الخمر أنت أصفاها، واله بابنة العنب” أو تعبيرا عن رغبة وشعور نفسي كما في قوله “لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة ولكن سبتني البابلية، أحسن من ذلك بنت صافية”. ويطّرد هذا الصنيع في أغلب تلك المطالع الساخرة، ومعنى ذلك أن الشاعر يتخذ من الوقوف على الأطلال رمزا لسلوك خاص يمثل التزمت والتخلف عن مسايرة العصر الذي يعيش فيه ) (11)
وبذلك تعمد المؤسسة النقدية الرسمية إلى قراءته عنصريا وليس فنيا . تقول أحلام الزعيم (هكذا كان أبو نواس يتعرض إلى مقدس العرب الفني… وهكذا كان يعلن رفضه لقيمهم الفنية مؤكدا اختياره لطريقته الجديدة وفنه الجديد، طارحا بديله عن هذا الموروث) (12 )
ولم ينتبه إلا القليل من الدارسين ( 13 ) إلى أن أبا نواس لم يرفض القيم الفنية العربية كقيم في حد ذاتها، وإنما رفض، من خلال سخريته، إعادة إنتاجها واستنساخها في الحاضر، آخذا بعين الاعتبار زمن القول، وواصلا تجربته الإبداعية بتجربته الشخصية في الحياة. فيصبح الحاضر مع أبي نواس سيد الأزمنة كلها، به واجه الماضي قيميا وفنيا، إنه زمن التوهج والنبض الحي، زمن الحياة الممهورة بإيقاع اللذة وعنفوان المتعة. لايريد الشاعر من وجوده سوى اللحظة الراهنة. لذلك فهو يسعى لتأمينها ونفي كل ما من شأنه أن يهدمها . بهذا نفهم سر ثورته ورفضه للتقاليد: إنه يطلب من عذّاله الإقلاع عن لومه الآن، كما يطلب من الشاعر المعاصر له أن ينبذ الطلل الآن، لذلك وجدناه يزجي دائما بفعل أمر يفيد الآنية والامتداد ( 14)
يمكن القول إن سخرية أبي نواس جسدت حالة حساسية جديدة، لا يدرك فيها التعارض بين الماضي والحاضر كتعارض زمني، وإنما كتعارض إبداعي فكري يعكس رؤية جمالية لها موقفها الخاص من مشكلات الحاضر .
والموروث الثقافي كان بالنسبة لأبي نواس – في جزء غير يسير منه – ذلك الركام من الأجوبة التي أضحت تعاليم ومسلمات تتعلق بمشكلات لا يطرحها عالمه الراهن، لذلك لم يرغب في أن يكون شعره جوابا على أسئلة لا يجترحها حاضره، ومن هنا انبثق الشك في نفسه، ووضع تلك المسلمات موضع السؤال (15)
فتجربة أبي نواس لم تكن مجرد دعوة لاستبدال ديباجة بأخرى كما اعتقد مندور، ولا دعوة لإحلال سلوك خلقي جديد محل آخر قديم كما ذهب إلى ذلك القط، ولا موقفا عدائيا من المقدس العربي وإنما كانت بالأساس قرينة تحوّل ثقافي فني مسّ بنية الشعر ووظيفته في المجتمع، وخلق بالتالي صدمة لدى جمهور واسع من المتلقين ( 16)
على أن ناقدا فذا كالجاحظ كان أوفق في إدراك حس المغايرة الذي مثلته شعرية أبي نواس، فهو ـ أي الجاحظ ـ يبني أحكامه على أساس عقلي مستمد من الفكر الاعتزالي، ومن ثم ينعي على النقاد التقليديين احتكامهم إلى معيار الزمن في تقييم الجودة. لذلك حينما انتصر لشعر أبي نواس استند إلى خصيصة داخل نصية عمادها جودة السبك وإتقان الصنعة، وهي ما يسميه بـ “الصياغة” ( 17)، ويضاف إلى الصياغة بُعد “التصوير( 18 )
غير أن صوت الجاحظ لم يصل ولم يعمم ولم يتمحص به أحد بل على العكس تم طمسه وتجاهله وشرعت المؤسسة النقدية الرسمية ـ التي لعبت في ثقافتنا العربية دور الناقد والفقيه والسياسي والمؤدب الاجتماعي التربوي ـ في ترسيخ صورة أبي نواس المناهض للمقدس العربي إن كان يتمثل في عمود الشعر العربي أو في القيم الإسلامية أو الأخلاق الاجتماعية أو الموقف السياسي من الدولة الدينية والعربية الإسلامية ، ولم تنظر في شعره إلا من أجل البحث عن أفكاره ومواقفه من المحرمات الدينية كما تراها . ومن هذا المنطلق كانت أغلب عناوين الدراسات التي تناولت شعره تدخل في إطار الاتهام تحت مسميات ” أبو نواس الماجن ، أبو نواس الزنديق ، أبو نواس شاعر الخمرة ، أبو نواس الشعوبي .”. ولكن فكرة الجاحظ التي ربطت شعر أبي نواس بالبناء الفني والصياغة واللغة المجازية والتجربة الحياتية لم يكن لها الرصيد الكافي للانتشار والتعميم ..و تم تناقل أحكام المؤسسة النقدية الرسمية على مستوى أجيال من الدراسات المسطحة بحكم سيطرة العقل الناقل في التراث العربي بشكل عام والأدبي بشكل خاص ، ولذلك نادرا ما نرى رأيا يخالف ذلك بين قارئي الشعر ؛ فعندما يُذكر أبو نواس في أي محفل أدبي أكاديمي أو غير أكاديمي يرتبط الاسم بالغلمان والمجون والشعوبية والعداء للمقدس العربي .
إن تلك القراءة المتعصبة للثقافة المركزية المحافظة في الدولة الدينية العربية منذ الخلافة الأولى حتى الآن دفعت بالفن ـ قدر استطاعتها ـ إلى مفهوم الالتزام بثوابتها الدينية والأخلاقية والاجتماعية مجافية بذلك حرية التعبير والاعتقاد والتفكير ، تلك المعطيات التي تشكل العامل الأبرز في حركة الإبداع والشعر منه بشكل خاص ..غير أن أبا نواس كان فذا إذ رفضت نفسه الحرة التعبير عن زمن لا يمثله وقيم فنية تجاوزها عصره وحرية ناقصة بخاصة أن عصره كان حافلا بصور التحول الثقافي وألوان من الحرية ، وخير مثال على ذلك إجهار أبي نواس بكل ما يعتمل في نفسه من آراء ثقافية أو اجتماعية أو دينية بغض النظر عن الزاوية التي نظرت منها له المؤسسة النقدية الرسمية و قصيدته التي وجهها إلى الفقيه إبراهيم بن سيار ( 19) ” دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ” خير دليل على ذلك .
وكأي ثقافة مضادة تقف في وجهها المؤسسة الثقافية الرسمية ستجد طريقها إلى جمهورها فانتشر شعر أبي نواس بين معاصريه وتناقلته العامة والخاصة ثم تداولته الأجيال التالية إلى يومنا هذا ، وغضّت تلك الأجيال الطرف عن تفنيدات المؤسسة النقدية الرسمية إن كانت تفنيدات ذات حوامل عنصرية أو دينية أو اجتماعية أو قيمية إحساسا من تلك الأجيال بالقيمة الفنية العالية لنص أبي نواس بعيدا عن فلسفة خطابه ضد المقدس كما تم الادعاء . ولكن الدارسين المنخرطين في المؤسسة الرسمية لم يستطيعوا بعد التحرر من الأحكام النقدية الجاهزة والمنقولة دون تمحيص حتى أصبحت بدهيات لا يسعون لامتحانها ومناقشتها على الرغم من أن نظرة شمولية لحركة الإبداع في ثقافة الشعوب ستبين أن الشعر لا يخضع لصوت الالتزام ، بل هو تحد مستمر للمنجز والراهن والثابت ، و يرتبط وجوده بالحرية أساسا ؛ حرية التعبير والقفز فوق البدهي والثابت ، وإلا كيف نقول : إن الشاعر يعبر عن الغد ويحررنا من إحباطنا والمألوف فينا !؟ ودون ذلك نكون أمام نظم وصيغ لغوية تدل على الاحتراف في أحسن الأحوال
وهكذا نحن أمام خيارين : الأول أن نقرأ شعر أبي نواس من وجهة نظر المؤسسة النقدية الرسمية ؛ أي نقرؤه ونحن مقبلين على حانة وجلسة خمر لا غير أو قول في الزندقة والعهر الأخلاقي وصور من الفسق ، وبذلك نقرؤه محمَّلين بكل المحرَّمات الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، وستكون النتيجة التأفف والاشمئزاز وكأننا نأخذ درسا في الأخلاق والقيم ولن ننتبه بالتالي للحمولات الفنية وجماليات الشعر في النص . والثاني أن نتخلص قبل الدخول في القراءة من الأحكام النقدية التي تحولت إلى بدهيات ونلج عالم التجربة الجمالية وحس التجربة الحياتية الجديدة في شعره ومتلمسين ملامح التحول الثقافي في عصره . عند ذلك لن نرى في وصفه لجلسة الخمر المعنى السطحي المباشر كما قرأته المؤسسةُ النقدية الرسمية وإنما دعوة للخروج من عنق الزجاجة الكلاسيكي للدخول في أنساق ثقافية جديدة ، ولن نرى التغزل بالغلمان لواطا ولن نرى في وصف الخمر خروجا عن القيم الدينية وإنما حرية في الإبداع تعبر عن طبيعة الحياة الجديدة التي عاشها العصر العباسي المزدهر والمتنوع بوسائل شتى وموضوعات متنوعة أو محرمة ، ولن نربط بعد ذلك بشكل مستمر ـ كما تفعل المؤسسة النقدية الرسمية ـ بين الشعر وحياة الشاعر على أساس أن الشاعر يصور تجربته الشخصية الضيقة ، ومن نصوصه نكتب سيرته الذاتية باعتقاد خاطئ أن الشعر وثيقة تاريخية ، ولو كان ذلك صحيحا لما كان الشعر كاشفا لضوء الروح في الظلمة الدامسة ، ولما كان مستشرفا للمستقبل ولما كان تحديا مستمرا للثابت والمستنقع الراكد ، فهو حامل للمعارض لغة وروحا وإنجازا فنيا ؛ ولأنه لغة منزاحة عن المألوف لا يمكن أن نقرأه بوصفه لغة مسطحة مباشرة بسيطة التكوين والتدليل والتوصيل ؛ ولأنه كذلك لا يمكن أن نوافق إذن على ما تم من تشويه لأبي نواس وشعره بل لابد من قراءته وفق طبيعة الشعر والشاعر والتحول الثقافي وحرية التعبير .
وفق تلك الرؤية سنقرأ نصا لأبي نواس يصف فيه جلسة خمرية كما ترى المؤسسة النقدية الرسمية لنرى صورة مغايرة ليس الخمر فيها غير أداة إجرائية محببة للتعبير عن موقف ثقافي شمولي تجاه الثقافة المركزية المحافظة وقضايا عصره .
ولكن قبل الولوج إلى النص لقراءته سنشير إلى ملاحظتين تشكلان خلفية للقراءة :
1ـ إن طبيعة الشعر بشكل عام طبيعة تأويلية ، بمعنى أن خطابه غير مباشر وإن تحدّث عن موضوع محدد كالمرأة أو الربيع أو الغروب … وما إلى ذلك . وتخطئ المؤسسة النقدية الرسمية في قراءته حين تبحث في موضوعه بوضوح مطلق وكأن الشعر لم يعمد قط إلى اللغة المنزاحة عن لغة التواصل الطبيعية ، يضاف إلى ذلك أن تلقي القصيدة لا يكون بغير تلقي الأفق الوجداني للشاعر؛ بمعنى أن تلقي قصيدة لنزار قباني مثلا لا يُحدَّد بمواصفات المرأة التي كانت موضوع القصيدة وإنما بالأفق الوجداني الذي تنشره القصيدة في المتلقي من خلال تواصله مع وجدان الشاعر ورؤاه المنفتحة عن عالم المرأة وارتباطها بالحياة بوصفها ـ المرأة ـ رمز الجمال والخصب والحب ورمز تغير المدلولات وحاملة لموقف الشاعر من وعي مجتمعه . من تلك الدلالات نتلمس الجمال في شعر نزار بوصفه قرين الحياة ونكهتها .ووفق ذلك يمكن أن نقول : إن نزار قباني يبعث الروح في حياتنا الجافة يملؤها بالورود وضحكات الصبايا ورعشة المساء المنعش ، إنه يمنح الجمال لحياتنا ، فكيف نأخذ بقول مشوهيه أو مهاجميه ومتهميه بالفسق والرذيلة ؟!
2 ـ يجب أن نفصل بين أبي نواس الشاعر والمثقف وبين أبي النوّاس (20) رديف جحا في التراث الشعبي . عن الشاعر والمثقف تقول أخباره وترحالاته وبيئته التي عاش فيها : إنه ربيب النعمة والثقافة والفن ، صاحب الخلفاء والأمراء والوزراء ، وحاجَجَ سلطة الحكام والعوام والفقهاء و الفلاسفة ، خبرَ جغرافية الشام والرافدين والنيل وحكْم برامكة بني العباس ونكبتهم ومجدَ الأمين ومقتله ، وعاصر هارون الرشيد في الخلافة والمطلبي (21 ) في الفقه الشافعي وشيخ المعتزلة نظام ، ولازم عائلة الربيع في بغداد (22) تعشّق روح الكوفة والبصرة ومن خلالهما المعارضة الشيعية المبطنة لحكم بني العباس في بغداد ، وقد عبر عنها بالمجون لإخفاء صراع السلطة ، وسُجن في زمن الرشيد وابنه الأمين لأسباب سياسية مغلّفة بالمجون … فكَره المعتزلة وجادل شيخهم نظام في قصيدته :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
بعد كل ذلك خلص أبو نواس إلى ” عفو الله في دنيا الناس ” وأوجد فلسفته الخاصة بالحياة من خلال حبه لها ليس مجونا ولكن لأنها تستحق الحب لما فيها من جمال ، فأبو نواس على خلاف شوقي، الذي اعتبر الدنيا جيفة
سَماؤُكِ يا دُنيا خِداعُ سَرابِ وَأَرضُكِ عُمرانٌ وَشيكُ خَرابِ
وَما أَنتِ إِلّا جيفَةٌ طالَ حَولَها قِيامُ ضِباعٍ أَو قُعودُ ذِئابِ
، يراها عروسا ، والى ذلك يشير بقوله :
إنما الدنيا عروس وأهلها أخو دعة فيها وآخر لاعب
عالم أبي نواس هو عالم الناس وعشق الحياة ، والاندفاع نحو الجديد والتحول الثقافي ضد التقوقع في ثياب زمن مضى قيميا وسلوكيا وأنساقا ثقافية ، ويقف عقبة في التحول الثقافي والاجتماعي ؛ ولذلك فإن كل حركاته وسكناته في النص الشعري بمثابة تحريض ضد المؤسسة النقدية الرسمية وضد الثقافة المركزية الشمولية المحافظة ؛ مرة بالسخرية من سطوة المفارقة بين زمنين ومرة بخلخلة المقدس في المعتقد الشعبي ومرة بالجهر بالممارس سرا عند السادة ومرة بتصغير المعظم عنصريا ومرة بالهزء من صرخة الحق التي يراد بها الباطل أو من برقع حياء المخادع .كل ذلك شهده أبو نواس وحاصره في نصه عبر المحرم والمجون ، ويبقى على المتبصر في الأفق الوجداني للشاعر أن يسال إلى أين سيأخذه النص الشعري ، هل سيسحبه إلى عالم ضيق لقراءته قراءة حرفية مجتزأة عن عالم الشاعر أم إلى شمولية الرؤية التي ينطلق منها أبو نواس الشاعر والمثقف وعاشق الحياة والمولع بالتجديد والمحرِّض ضد الثقافة المركزية المهيمنة لدولة السلطة الدينية ؟
النص (23)
بادِر صَبوحَك وَاِنعَم أيهــــــا الرجــلُ واعصِ الذيـن بجهلٍ في الهوى عذَلوا
واخْلع عذاركَ، أضحكْ كلَّ ذي طَربٍ واعدِل بنفســـــــــك فيهم أينما عدلوا
نالَ السُرورَ وخفْضَ العيشِ في دَعَةٍ وفاز بالطيِّبات الماجــــــــــنُ الهَزِلُ
سُــــقياً لِمجلِسِ فتيـــــــــانٍ أنادِمُهــُم ما في أديمِهِمُ وهيٌ ولا خــــــــــــللُ
هَذا لــــذاكَ كما هذا وذاكَ لِذا فالشمـــــلُ مُنتظمٌ والحبلُ مُتَّصــِلُ
أكْرِم بهم وبنَغــــمٍ من مُغنيــــة ٍ ففي الغناءِ بنَـــغمٍ يُضـــربُ المثل ُ
هيفاءُ تُسمعنا و العودُ يُــطربنا ودِّع هُريرة إن ّ الرّكــبَ مُرتَحِلُ
نشير في البداية إلى أننا لن نعمد إلى تحليل النص بغاية تقديم منهجية علمية نقدية لدراسة النصوص الشعرية ؛ فإن فعلنا ذلك سنكون في الختام خارج إطار المبحث الذي وضعنا فيه أبا نواس ” التحول الثقافي و الخطاب التحريضي ” ونكون أمام دراسة فنية لنص شعري ليس غير . وعليه فإن الطرح الذي مهدنا فيه للقراءة يتناول النص على مستويين من القراءة : الأولى ظاهرية محدِّدة للموضوع بشكل حرفي . والثانية تأويلية تأخذ بعين الاهتمام الأفق الثقافي والوجداني للشاعر وسيكون هو الغاية من التحليل مع الأخذ بعين الاهتمام قراءة كل ما يؤدي إلى ذلك المطلب التحليلي .
ـ طبيعة الدعوة في النص : تبيّن القراءة المظهرية المعتمدة رسميا من قبل الدارسين لشعر أبي نواس أن الشاعر قدم دعوة لشخص متوجس من جلسات المنادمة لما يسمع عنها من فسق ومحرمات ولهو ، ثم فصّل أبو نواس ما يدور في الجلسة من متع وغناء ولهو فيها وما على المدعو فعله . ولكن النص يثير بعض الأسئلة المناقضة لتلك القراءة السطحية وسنوضح ذلك فيما يلي :
ـ حين نقرأ نصا سرديا تشدنا الأحداث والشخصيات وبعض التفاصيل السردية ، وبعد الانتهاء من القراءة تبدأ مرحلة جديدة من التلقي تغزونا قائمة على تأمل العالم السردي الذي خلقه الروائي أو القاص باعتبار دلالاته الممتدة أفقيا وعموديا في عالمنا الراهن أو في عالمنا الماضي. وهنا تتحرك فينا القوى الذهنية التجريدية من أجل قراءة الرؤى الفكرية والتصورات الذهنية للكاتب أو معرفة رسالته الفنية والإنسانية والمعرفية التي يريد أن يقولها ؛ يعني علينا بعد القراءة البحث عن دلالات النص وليس عن أحداثه ….
ذاك ما يكون مع السرد ، وهو جنس نثري ؛ بمعنى أن لغته أقرب إلى لغة التواصل الطبيعية ، فكيف لا نفعل ما فعلناه مع السرد في النص الشعري الذي هو قائم بمجمله لغة وتركيبا وتصورات ورؤى على الانزياح بمفهومه الشامل ؟ !
ـ لجلسة الندماء شروط لا يمكن خرقها بين الصحبة المنسجمة ، ومن تلك الشروط اقتصارها على الرفقة والأصحاب المتناغمين ، ولذلك فإن دعوة الشاعر لغريب عن الصحب وطبيعة الجلسة هو خرق لا يمكن قبوله من الندماء بخاصة أن المدعو ليس من عالم الخمر والغناء والندماء ! يضاف إلى ذلك أن المدعو لا يمثل صديقا لأبي نواس لأن الماجن لا يمكن أن يكون صديقا لنقيضه ! فكيف بعد ذلك يدعوه للسهر مع ندمائه بدعوة مخلصة وشفيعها في النص الشرح والتفصيل في محاسن الجلسة وخصال الأصدقاء الندماء ، وأبو نواس ـ على اعتبار فسقه ومجونه ـ سيكون أدرى بشروط جلسة الندماء والخلان .!؟
ـ في النص ميل لتقديم النصيحة والحكمة وهما ينتظمان في حقل دلالي واحد مع العقل والتبصر، وهذا يتناقض مع جلسة يتناول فيها الصحب الخمرة المسكرة ويتمايلون طربا وغناء .
إن القبول بدءا بتلك الملاحظات على القراءة السطحية سيمهد لنا الدخول إلى النص بوصفه عالما ثقافيا شاملا فيه خطاب تحريضي ضد الرؤية المناقضة للحياة وبحث عن تأسيس أنساق ثقافية جديدة نبتكر فيها القدرة على الفرح ونعثر على أيقونات الجمال في الخلق والصدق والاتساق بدل التفرقة والكره والتكفير والاتهام
يفتح النص أمامنا ـ تحدثنا هنا بضمير الجمع بقصد التنبيه إلى أن الدعوة بوصفها ” عالما ثقافيا شاملا ” كما ذكرنا ـ تتجاوز الفرد ” بادر صبوحك ” ـ لاقتحام عالم جديد يمكن أن يختصر رؤية أبي نواس للعالم والحياة بشكل عام في مقابل صورة الحياة كما يراها المدعو للمبادرة على الرغم من أن تفاصيل النص تشير إلى عالم أبي نواس ، ولكن عالم المدعو للمبادرة هو حاضر بفعل الغياب كمعادل موضوعي لعالم أبي نواس ، وعليه يمكن تصور عالم المدعو القائم على نقيض عالم الشاعر . وفق ذلك نكون أمام رؤيتين :
رؤية الشاعر الدافعة للإقدام على الحياة والتمتع بها عن علم ودراية بطبيعتها من خلال التجربة الشخصية والغيرية ، فالانكماش عنها يورث القلق والأرق والألم والكره
رؤية المدعو الدافعة للخوف من الحياة والحذر من متعها ونعمها عن جهل بها ثم مجانبتها والامتناع عن العيش فيها بغير الهم والقهر والكره
يهيمن على بداية النص فعل الأمر ” بادر ، انعم ، اعص ، اخلع ، أضحك ، اعدل ” ثم تنتهي القصيدة أيضا بفعل الأمر ” ودِّع ” وذلك دليل الاستحواذ على المدعو المتردد لما لفعل الأمر من أثر استلابي على المتلقي ؛ إذ يمنعه فعل الأمر من الحوار والمناقشة ويدفعه للامتثال
ولكن فعل الأمر في القصيدة لم يأت مجردا من رؤية الشاعر وأنساقه الثقافية التحريضية فصيغة الأمر آتية على خمس مراحل وفق موقع كل فعل ، و تأتي بكل موقع محملة بمدى استجابة المدعو . ففي بداية الدعوة ” بادر صبوحك ” يبين فعل ” بادر” أنه لا توجد سيطرة على المدعو فهو من سيبادر وإن كانت صيغة الأمر تهيمن على خطاب أبي نواس ، ولكن فعل المبادرة فعل طوعي ، وهذا مهم في نسق أبي نواس الداعي إلى الحرية في شكل الحياة وطريقة عيشها . بعد المبادرة يقيم الشاعر خطابه على كسر الحواجز النفسية بين المدعو والعالم الجديد بأنساقه المختلفة ” وانعم أيها الرجل ” وهي بلغتنا البسيطة ” خذ راحتك ” أي تخلّص من الحرج و الانكماش والجمود والتقوقع على الذات والأفكار الرافضة للانفتاح على العالم الجديد . ونداؤه ” أيها الرجل ” لغة يومية بسيطة تدل على البساطة في خطاب أبي نواس للمدعو كما تشير إلى ضيق المسافة النفسية بينهما . وحين وضع أبو نواس المدعو في تلك الدرجة من القرب استطاع أن يتدخل بوعي في نقد الأنساق الثقافية المهيمنة على وعي المدعو . بمعنى آخر هو أردف القرب منه بمهاجمة وعيه المعرفي المكتسب من تصورات مشوهة لفئة المحافظين الرافضين للحياة وما فيها تحت قيم وأنساق لا تساير طبيعة الحياة ” واعص الذين بجهل في الهوى عذلوا “
طلب منه العصيان ، ومبررات الطلب جهل حاملي الرؤية المختلفة المناقضة لطبيعة الحياة، وبذلك يكون أبو نواس قد أدخل المدعو في نسق من الحوار الداخلي ؛ أي التشكيك في أنساقه الثقافية . ثم يصل أبو نواس إلى فعل الأمر التالي ” واخلع عذارك” وخلع العذار يستدعي التصور أن أبا نواس كان على دراية بما يجول في نفس المدعو في حوار التشكيك الداخلي ، وطلبه ” اخلع عذارك ” هو طلب بالتجرد من الأنساق الثقافية المخالفة لما يدعو إليه أبو نواس ؛ فالخلع لا يعني التخلي فحسب بل الانفصال عن الملبوس المناقض وغير المناسب . وخلع العذار هنا ضرورة يتطلبها النسق الثقافي الجديد ، فدون ذلك لا يمكن التواصل مع الأنساق الجديدة ولا يمكن التواصل مع الصحبة في وجل وتشكيك وحيرة .. وهنا وبعد الانفصال والتهيء أدخله في لعبة الحالة الجديدة ليكون أهلا لها ” واعدل بنفسك فيهم أينما عدلوا ”
بعد أن يُدخلَ أبو نواس المدعوَّ بأنساقه الجديدة و يتركه وشأنه ليستمتع بعالمه الجديد يُحدث انقطاعا معه فلا يتواصل معه ثانية إلا في الشطر الأخير من القصيدة في ” ودّع هريرة ” وذلك من أجل الالتفات إلى توضيح أنساقه هو في الحياة ؛ فهو لم يعد يخاطب المدعو بل يخاطبنا نحن من خلال الوصف حيث يتوقف تطور الحدث ليكتمل الحوار بين الرؤيتين عبر الشرح والتفصيل والإيضاح ؛ فيعلن أبو نواس صورة أنساقه من خلال الحكمة في البيت الثالث ” نال السرور وخفض العيش في دعة / وفاز بالطيبات الماجن الهزل ” ليس في قوله ذاك انتقادا لطبيعة الحياة أو تذمرا منها وإنما دعوة إلى التخلي عن التوتر والتعصب فيها والانكماش و التشدد ؛ لأن طبيعتها الزائلة لا تسمح بغير أن نعيشها بهدوء ومتعة وانفتاح على مشاربها وتطورها وجديدها وصيرورة زمنها وما يحدث فيه من تغيرات ، وأي محاولة لوقف تلك الطبيعة الخاصة بها يولّد العنف والكره والبغض والتناحر ليس مع الحياة وحدها وإنما مع ساكنيها ، فإما أن تكون جديرا بالحياة أو أن تقف معزولا حاملا هما زائفا سببه الكدر و الرؤية السلفية لشؤونها .
وفي وعي حجاجي يتدخل في مقطعه الوصفي ويتحول خطابه في النص من العام / الحكمة التي قالها في البيت السابق إلى العام / الخاص الذي يمكن قراءته عبر التورية بين استمرار تعزيز أنساقه الثقافية ورؤيته للحياة وبين ما يتهم به من قبل مناقضيه في الأنساق السلفية المغايرة حول طبيعة حياته وما فيها من مجون من وجهة نظرهم . فطبيعة الصحبة والندماء وما فيهم من إخلاص وتماسك ومحبة وانسجام يغري بالغيرة والتودد والالتحاق بهم أو بأنساقهم الثقافية ” وهذا لذاك كما هذا وذاك لذا / فالشمل منتظم والحبل متصل ” مع هذه الأنساق تطيب الحياة وينتشر الغناء والطرب حيث تصبح الحياة جديرة بالعيش بأبعادها المختلفة ألم يقل الشاعر الراحل محمود درويش ” على هذه الأرض ما يستحق الحياة ”
بعد أن يفرغ أبو نواس مقاطعه الحجاجية لمخاطبة المدعو المتماهي الآن مع أنساقه ورؤاه للحياة وعيشها يعود بصيغة الطلب ” ودّع هريرة إن الركب مرتحل ” وهنا نقرأ اقتباسه من الأعشى ” ودّع هريرة إن الركب مرتحل / فهل تطيق وداعا أيها الرجل ” (24) على ثلاثة مستويات
الأول : حرفي من النص ودون دلالات وأبعاد وهذا جور على الشعر وإجحاف بحقه إذ المغنية تغني أبياتا من شعر الأعشى ” هيفاء تسمعنا والعود يطربنا } ودّع هريرة إن الركب مرتحل { ”
الثاني : في الاقتباس خطاب مباشر للمدعو بعد رحلته تلك في المجلس الخمري لأبي نواس ” ودع ” فالجلسة قد انقضت ويعززها قبل التورية الشطر الثاني من بيت الأعشى ” وهل تطيق وداعا أيها الرجل ” هي ذات الصيغة التي أطلقها أبو نواس في شطره الأول ” بارك صبوحك وانعم أيها الرجل ” ولذلك قلنا طلب من المدعو ” ودِّع ” ولم نقل أمر لتخفيف وطأة الكلام . فالطلب هنا لم يكن للمغادرة وإنما لانطلاق التردد أو الاحتفاظ بأي شكل من الأشكال بالأنساق الثقافية للمدعو وتوديعه لما رأى وعايش ، وهو أمر اختياري ، ولذلك كان السؤال بعد ” ودع ” في الشطر المستدعى بفعل حضور الشطر الأول ” وهل تطيق وداعا أيها الرجل “
الثالث : موقف معرفي يجب تسجيله لأبي نواس المتهم بهدم الثقافة العربية والتنكر لها خاصة موقفه من الشعر القديم . فالاقتباس منه يدل على تقديره له وإدراكه لجمالياته .
بعد توضيح تلك الرؤية لنص خمري لأبي نواس اتُّهم على أساسه ومثيله بالمجون وبأنه شاعر الخمرة والشعوبية . يمكن القول : إن الخطاب الشعري لأبي نواس ظاهره مجون وعمقه معرفي ثقافي تحريضي ضد التزمت والانغلاق على زمن مضى بقيمه الفنية والاجتماعية والثقافية . ولأنه كذلك وقفت المؤسسة النقدية الرسمية ضده من خلال تشويه صورته وربط شعره وحياته بالمجون والخمرة والغلمان ، بل أظهرته ، بعد أن دمجت شخصية الشاعر بشخصية أبي ” النواس ” في التراث الشعبي ، في عين الأجيال المتتالية شاعرا متسكعا فيه الكثير من الندرة والطرفة والجنون ؛ ولذلك لا يؤخذ فنه مأخذا جادا حتى أصبح ثالث اثنين لا يلامان على أقوالهما هما المجنون والطفل . ولكن شعر أبي نواس أصبح جزءا من الثقافة المضادة نتيجة حملات التشويه فانتشر بين الناس عبر الأجيال الماضية وأصبح أكثر حضورا من الأعلام التي روجت لهم المؤسسة النقدية الرسمية .
الهوامش والمراجع
1. المهري ، عبد الله بن أحمد . أخبار أبي نواس تحقيق عبد الستار أحمد فراج .مكتبة مصر . ص123
2. ـ أخبار أبي نواس ص 40
3. أخبار أبي نواس ص 59 ـ 80
4. أخبار أبي نواس ص 85
5. أخبار أبي نواس ص 116
6. أخبار أبي نواس ص 20 ـ 44
7. أخبار أبي نواس ص 19 ـ 70
8. أخبار أبي نواس ص 83
9. . العقاد ، عباس محمود. أبو نواس الحسن بن هانئ منشورات المكتبة العصرية . بيروت ص 10. 13 . 19
10. مندور ، محمد . النقد المنهجي عند العرب. مكتبة النهضة المصرية. 1948، ص 59.
11. القط، عبد القادر . حركات التجديد في الشعر العباسي ضمن كتاب، إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين، إشراف عبد الرحمن بدوي، دار المعارف، مص 1962، ص 416-417
12. الزعيم ، أحلام . أبو نواس بين العبث والاغتراب والتمرد، الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت 1981، ص 127
13. أحمد عبد المعطي حجازي وجابر عصفور وعلي كرزازي
14. حجازي ، أحمد عبد المعطي. محاولة في قراءة أبي نواس: الزمن والخمرة . مجلة آداب، عدد 1 و2، 1977 السنة 25، ص 65
15. كرزازي ، علي . استراتيجية الموقف السخري عند أبي نواس
. ww.aljabriabed.net/n14_11karzazi.htm
16. كرزاي ، علي : من ذلك ابن شرف القيرواني
17. الجاحظ ، عمرو بن بحر . البيان والتبيين . الجزء الثاني، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي مصر 1940، ص 27.
18. الجاحظ، عمرو بن بحر . الحيوان. الجزء الثالث، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي مصر 1940، ص 132
19. هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري، وُلد سنة 185 هـ/777م في البصرة، تتلمذ على يد أبي هذيل العلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكوّن له مذهباً خاصاً .. الصفدي ، صلاح الدين . الوافي بالوفيات تحقيق أمين علي مهنا وعلي حسن فاعود بيروت ، دار المعرفة ج1 ص 71 .
20. العقاد ، عباس محمود . أبو نواس ص 10
21. أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (150-204هـ / 767-820م) هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، الصفدي ، صلاح الدين . الوافي بالوفيات ج2 ص 171
22. تعود إلى الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة مولى عثمان بن عفان، ووزير الأمين الخليفةالعباسي، كان أبوه الربيع بن يونس وزيراً في عهد المنصور والمهدي والهادي وقد ولد في مدينة الخليل عام 138 هجري وتوفي عام 208هـ . الذهبي ، محمد بن أحمد سير أعلام النبلاء مؤسسة الرسالة 2001 . بيروت ج 10ص 110
23. أبو نواس ، الحسن بن هانئ . ديوان أبي نواس . تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت 1992، ص 49.
24. الأعشى ، ميمون بن قيس . ديوان الأعشى الكبير . شرح وتحقيق محمد حسين . القاهرة ، مكتبة الآداب ص 55
*باحث أكاديمي سوري . يقيم في المغرب
البريد الإلكتروني: youssef.ism@gmail.com