تحولات المعرفة والجدل الفكري


*عيد عبد الحليم

محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، اسمان بارزان في تاريخ الثقافة المصرية الحديث، بما قدماه من إسهامات واضحة في مجال الجدل الفكري والإبداعي والنقدي منذ أن قدما معاً كتابهما الرائد “في الثقافة المصرية”، الذي صدر بعد ثورة يوليو 1952 مباشرة، الذي يعتبره بعضهم “مانفيستو” ثقافياً أثر في جيل الخمسينات والستينات، والأجيال التالية .

تميزت تجربة المفكرين الراحلين، اللذين تلازما في الحياة وفي الرحيل أيضاً فقد توفيا في شهر واحد عام ،2009 بسمات عدة:
أولاها: الالتزام الفكري، فقد التزما في بداية حياتهما بالفكر الماركسي وانخرطا في الحركة الشيوعية المصرية منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي .
وقد كان عبد العظيم أنيس مندفعاً إلى نشر الأفكار التي آمن بها حتى بعد أن تخرج بتفوق وعمل أستاذاً للرياضيات في الجامعة، حيث راح يعلم تلاميذه هذه الأفكار، وبدأ يقود التظاهرات الطلابية ويسهم في تنظيم الإضرابات العمالية، فقد كان يمتلك عقلية نقدية واعية متمردة قادرة على تبسيط أعقد الأفكار، مما أثر في وضعه كأستاذ جامعي، حيث قررت الحكومة نقله إلى جامعة الإسكندرية، لكنه لم ييأس وبدأ يمارس نشاطه السياسي والفكري في الجامعة مما جعله في عداء مع الحكومة فدخل السجن، وهناك بدأ يعلم الأميين من المساجين والمعتقلين القراءة والكتابة، في الصباح، ويلقي دروساً في الرياضيات وعلم الإحصاء في المساء، وفي نهاية اليوم يجلس ليلخص إحدى الروايات والكتب الشهيرة عالمياً لرواد مجلسه الذين كان ينتظرون ما تجود به قريحته .
وكذلك كان محمود أمين العالم الذي عزل من الجامعة بسبب أفكاره التقدمية مع أنه قدم رسالة هي الأولى من نوعها في الجامعة المصرية، وكانت تحمل عنوان “فلسفة المصادفة” .
السمة الثانية، جدية الناقد وقوة قريحته، فكلاهما كان صاحب توجه نقدي أثار كثيراً من الجدل والنقاش والصدام أيضاً، ولا ننسى – هنا – معاركهما مع عباس محمود العقاد، وطه حسين بعد صدور كتابهما “في الثقافة المصرية”، وإن كانت تجربة محمود أمين العالم أكثر امتداداً، فقد مارس النقد لسنوات طوال، فرؤيته للأدب وللإبداع لم تتوقف عندما طرحه هو ود . عبد العظيم أنيس في كتابهما المشترك في بداية الخمسينات، بل اتخذ أفقاً أكثر تمرداً، وأكثر براحاً وتزحزحت الأفكار قليلاً لتحل محلها أفكار أخرى ورؤى مغايرة .
وذلك حسب ما يؤكد د . صلاح السروي جاد “إما نتيجة لارتقاء الوعي النظري للعالم وزيادة خبراته ومعرفته بخصائص العمل الأدبي وطبيعته النوعية التي تجعله يحمل داخله قانون تطور النوع الخاص، بغير انفصال عن قانون الحياة الاجتماعية العام، وإما نتيجة للتطورات الهائلة التي طرأت على النظرية النقدية، مناهجها وإجراءاتها خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وكان لزاماً عليه أن يتفاعل معها على نحو إيجابي، يثري فيه رؤيته النقدية ويطورها، وفي الوقت نفسه يسهم في الارتقاء بالنظر النقدي العربي الذي كاد يسلم نفسه بشكل كلي للاتجاهات الشكلانية التي تكاد تبتر أي علاقة بين المنتج الأدبي وخارجه” .
ومن أهم كتب العالم، التي تشهد بتطور النظرة النقدية لديه كتابه “تأملات في عالم نجيب محفوظ”، والصادر عام 1970 حيث حاول فيه أن يوجد علاقة وثيقة بين “الصورة والمادة، فالصورة لا يمكن فصلها عن المضمون بل تكاد تتضافر معه فيصيران شيئاً واحداً”، وعن ذلك يقول العالم: “إن صورة الشيء لا تكاد تنفصل عن حقيقة إدراكه بل عن حقيقة وجوده كذلك”، ويرى العالم أن الصورة هي جوهر الإبداع . 
ويعد كتابه “ثلاثية الرفض والهزيمة” والصادر عام 1985 تطوراً ملحوظاً في نظرته النقدية وإن كان يصر فيها على ثنائية “الشكل والمضمون”، لكنه يختلف عن رؤيته السابقة على أنهما قائمان على “التكامل والتآزر” فهما – في هذا الكتاب – تربطهما علاقة جدلية تقوم على أنها قانون عام يحكم العملية الإبداعية ككل، وهنا تظهر توجهاته الماركسية التي نشأ عليها والتي تعد من منطلقاتها “المادية الجدلية” .
وفي هذا الكتاب نجد “العالم” يربط بين الأدب ومحيطه الاجتماعي بما فيه من ظواهر جديدة .
أما عبد العظيم أنيس، فكان صاحب منهج صارم لا يقبل بأنصاف الحلول، عاش محباً للماركسية وعن ذلك يقول: حين سئل – وهو في سن السبعين – هل مازالت محباً للماركسية، برغم الانهيارات التي وقعت فأنا لا أزال على قناعاتي بشكل عام بالماركسية، ولا أزال أعتبر نفسي ماركسياً ولكن حينما نتأمل ماضينا الطويل سنجد أننا عاملنا الماركسية بشكل دوغمائي، كنظرية جاهزة فيها إجابة عن كل الأشياء وحلول كل المشاكل، بحيث لم ننظر إلى هذه النظريات كمقدمات قابلة للتطوير والإضافة والتعديل، ولم ننظر إلى نسبة كثير من قوانينها .
السمة الثالثة التي ميزت تجربة العالم وأنيس الثبات على المبدأ في توجهاتهما الوطنية، وقد سجن الاثنان في معتقل الواحات، ومع ذلك لم يهاجما ثورة يوليو ،1952 وقد قال العالم: إن ثورة يوليو حركة وطنية ديمقراطية رغم طابعها العسكري وأساليبها الفوقية ولابد أن نتعاون معها .
وعلى حد تعبير المؤرخ د . عاصم الدسوقي فإن مشكلة محمود العالم وسط الحركة الشيوعية أنه رأى أن ثورة يوليو تمثل تياراً وطنياً ديمقراطياً اشتراكياً، وما أن خرج من المعتقل وتم حل الحزب الشيوعي انضم إلى التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي ثم ضمه عبد الناصر إلى السكرتارية العامة للتنظيم الطليعي وتولى عدة مسؤوليات ثقافية تنفيذية في رحاب ثورة يوليو .
وظل محمود أمين العالم يتقلب عبر عدة محاور فكرية حتى استقر في عام 1992 على التخلي عن المادية التاريخية .
ورغم أن الجهد الأكبر للدكتور عبد العظيم أنيس كان في مجاله الأكاديمي كعالم رياضيات وإحصاء من الدرجة الأولى إلا أنه كتب كتاباً بالغ الروعة ينم عن موهبة أدبية متميزة، وهو كتاب “رسائل الحب والحزن والثورة”، والذي صدر عام ،1976 ويضم مجموعة من رسائله إلى زوجته عايدة ثابت أرسلها إليها وهو في السجن، وقد كتب الكتاب بلغة أدبية رشيقة تنم عن حس فني، ويروى “أنيس” في نهاية كتابه قصة خروجه من السجن في إبريل عام 1964 .
كما كتب أنيس السيرة الذاتية، التي أشار فيها إلى نشأته – والتي تقترب من نشأة محمود أمين العالم – فكلاهما ولد في المنطقة المجاورة للأزهر الشريف، ونشأ نشأة دينية حفظا فيها القرآن الكريم ومبادئه، وكلاهما كان محباً للقراءة منذ الصغر، وهذا ما يؤكده د . عبد العظيم أنيس حين يقول عن فترة الصبا: “في مرحلة المدرسة الثانية، واظبت طوال الصيف على الذهاب إلى دار الكتب في ميدان باب الخلق للقراءة واستعارة الكتب، فقد كانت ظروفنا المالية لا تسمح بشراء كتب للقراءة العامة، وإن كنت قد استفدت من مكتبة أخي إبراهيم بالمنزل التي تركها عند ذهابه إلى بريطانيا، ومنها قرأت مقامات الحريري وديوان المتنبي وديوان الحماسة لأبي تمام وكتاب قدامة بن جعفر في نقد النثر وغيرها، وكان ذلك مقدمة لمواظبتي على الذهاب كل يوم خلال الصيف إلى دار الكتب، وساعدني على هذا أن خالي الأصغر كان آنذاك رئيساً لقسم الفهارس العربية بينما قسم الفهارس الأجنبية كان يرأسه الشاعر أحمد رامي، وكنت مشتركاً في جماعة التمثيل بالمدرسة، وكنت ضمن هيئة تحرير مجلة المدرسة”، وبالمثل كانت نشأة محمود أمين العالم الذي أحب الأدب منذ صغره، وكتب الشعر وله ديوان مطبوع، ومن قصائده الأولى التي كتبها في الأربعينات قصيدة “دون كيشوت الأخيرة”، والتي يقولها فيها:
هل أغني؟، هل أشرع السيف؟
أم أقبع وحدي هنا وراء ستارة؟
أتلهى بما تلهى به الناس، سؤال عن صحة وسيجارة
أرشف العمر في اتئاد وحرص ثم أذرو دخانه في مهارة 
لن أذرو دخانه في مهارة
لن أغني، لن أشرع السيف، لن أقبع وحدي هنا وراء ستارة
سوف أمضي كما ولدت، سأمضي في الطريق الذي يسير عليه الناس 
أمضي وفي جبني بشارة
وقد هاجم بعض النقاد تجربة عبد العظيم أنيس النقدية ومن هؤلاء الناقد الراحل د . غالي شكري في كتابه “ثورة الفكر في أدبنا الحديث”، والصادر عام 1965 حيث يقول: “إن فهم أنيس فهم قاصر لوظيفة النقد الأدبي، حيث تحدث عن مجموعة من الروائيين المصريين فلم يتحدث عن خصائصهم الفنية قط، وكأنه يتحدث عن أعمال سياسية محصنة، فالدكتور لم يستهدف بحثاً في السياسة والمجتمع، وفي حدود هذا الهدف المتواضع لم يتمكن من استقراء النظرة الصحيحة والحكم الصواب” . وهذه النظرة، وفق رأي الكثيرين ليست منصفة فهناك مقالات نقدية كثيرة كتبها د . أنيس تنم عن موهبة وقدرة على التحليل النقدي الجاد، رغم أن إنتاجه النقدي ظل متناثراً حتى الآن ويحتاج إلى من يجمعه في عدة كتب، لأن هذه الدراسات تؤرخ لمرحلة أدبية وثقافية امتلأت بالمواهب المتعددة .
لقد كان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس نموذجين نادرين للإخلاص في حب المعرفة، ومحبة العقل والوطن حتى آخر رمق في الحياة .
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *