اثنا عشرَ غزالاً على أسرة بائعاتِ الهوى


*وداد نبي

بائعاتُ الهوى فقط 

يجدنَ الحديثَ عن الألمِ كما نعيشهُ تماماً 
لا يخجلن من نعتهِ بأقبح الصفات التي تليق بهِ علناً 
يُعرّينَ «عانته» بسوق الخضار تحت مرأى الجميع 
حتى الدجاجات المعروضة في الأقفاص يشاهدنهُ ذليلاً
يضاجعنَهُ كما لو كان رجلاً عابراً ويحفظنَ أدقَّ تفاصيلهُ
الألم الذي يعضّنا ونعضّهُ سرّاً، نلوكهُ مراراً كما نفعلُ 
بقطعة لحمٍ قاسية، يلوي ذراعنا كما لو كانت الحياة 
حلبة مصارعةٍ تجري بـ»لاس دي فينتاس» في إسبانيا 
فيكسر ضلعنا السادس بعد أن يمدَّ رداءه الأحمرَ «كالماتادور»
هازئاً بهشاشتنا البشريَّة المُعروضة كإعلانٍ طرقيٍّ سيّئ
يخمش بأظافره غير المقلمّة وجهُنا الغضّ كصبيٍّ أزعرَ من «حيّ الشعار» 
بحلب، يشدّ شعرنا الطويل.. يلفّه بيديه المتّسختين كيدي منظّف مداخنٍ عجوز 
ويبصق في فمنا الذي لم يتلوّث يوماً سوى بلعاب الحب 
ويتركنا نغسلُ أنفسنا من رذائله ِ حتّى موعدٍ آخر
* * *
نضعُ العامود السابع لأكروبول الألم..
«القلب» تحت أكثر أحذيتنا خشونةً واتّساخاً 
نضعهُ هناك ونسحقهُ كما لو أنّهُ خرقةُ قماشٍ بالية نظّف بها
متسوّلٌ أنفهُ أو بقايا سائلهُ المنوي مع بائعة هوى رخيصة
نضعُ «القلب» تحت الحذاء 
ونمرّ فوق جثّتهُ مراراً وتكراراً كثورٍ معصوب العينين
نحولّهُ لغبار ذهبٍ .. لقصائد.. أغنيات.. تحف فنيّة 
مقطوعات موسيقيّة، لقُبّلات حُبّ، أو تذاكر أفلام سينمائيّة 
و نوزّعهُ على هذا العالم الوسخ، نتخلّص منهُ كما نتخلّص 
من لطخةِ شرفٍ قديمة بشجرة العائلة، ليغدو عاراً جماعيّاً 
فنبتسمْ مطمئنّين.
* * *
أينما ذهبنا.. نأخذهُ معنا..
في الشوارع.. والحافلات.. محطّات المترو.. والسوبرماركت،
النوادي الليلية، سهرات الأصدقاء
حفلات الزواج، معارض الكتب، لعروض الأفلام السينمائيّة 
لمواعيد الحب، لزيارة أمّهاتنا، لقبور أحبّتنا، للعمل، للمقهى 
ولسرير الحبّ..
نتأبّطُ ذراعيه الكبيرتين ونمدّهُ بمديةٍ حادّة ليعيث فساداً بحيوات 
الآخرين كما فعل بحياتنا.. 
يكسرُ ظهر الجميع ويدلي قدميه من أعلى أعناقهم ويضحك 
بفمٍ يملأهُ وحلُ الخسارات.. يضحكُ ويصرخ..
ها أنذا يا أولاد الحياة..
ها أنذا.. أنامُ مع بائعات الهوى على ذات السرير الذي
ينجبنكم عليه ِ كلّ مرة
* * *
يتبوّلُ كسكير غير مبالٍ على جراحنا القديمة..
لا نعودُ قادرين على الإصغاء لصوت «لويس أرمسترونغ» 
وهو يغنّي
What a wonderful world» «
بل نفكّرُ بالديدان التي تأكلُ كلّ يوم قطعةً منا 
قطعةً من قلبنا «أكروبول الألم العظيم»
نُسقط حصونَنا تحت وقعِ ضربات إزميله فيما 
يمتدّ بجيوش ديدانه داخل أجسادنا 
يبني خلاياهُ بكلّ حيٍّ من الأحياء التي نسكنها 
يختفي صوت «أرمسترونغ» ونكتشفُ أنّنا فقدنا صوتنا..
ننبحُ ككلابٍ موثوقة بجنازيرَ ونعوي 
«العالم ليس رائعاً.. العالم ليس رائعاً»
إنّهُ عالمٌ مليءٌ بالجثث.. بالتوابيت.. باللصوص 
بالطغاة.. بالأنقاض.. بالمعتقلات.. بالأوبئة.. بالحروب 
بالأسلحة.. بمهرّبي المخدّرات…
بالتافهين الذين يسرقون حصّتنا من السعادة
عالمٌ متسخٌ.. 
يضعُ غزالةَ الألم فوق أسرّة بائعات الهوى 
اللواتي ننام بأحضانهنّ حينما يبصقنَ العالم خارج رحم أمّهاتنا.
وننجب منهنَّ اثنا عشر غزالاً حزيناً 
لنسند أكروبول الألم الشاهق للبلاد التي منحتنا أسماءً حزينة.
شاعرة سورية/القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *