لَمَحُوك


*حسن حجاب الحازمي

وضعت كفيها في كفيه، وصدرها في صدره، ورأسها بموازاة رأسه، وهما واقفان يتأهبان للرقص، تماماً كما يحدث في الأفلام، خطوة إلى الأمام، خطوتان للخلف، زاد إيقاع الموسيقى، فازداد وقع خطواتهما، ذابا في الرقصة، امتزجا، ومع كل خطوة كانت تقترب منه أكثر، ويضمها أكثر، همست في أذنه: أحبك ضمها إلى صدره أكثر، رفعت عينيها في عينيه وقالت: أحبك. ضمها إلى صدره أكثر، وهمس في أذنها: وأنا أيضاً أحبك. لم تكن متأكدة مما يحدث، هل يمكن أن يكون ما يحدث حقيقة؟

منذ زمن طويل لم تر ابن عمها الذي كانت تلعب معه صباح مساء، منذ أن تحجبت وهي تحلم باللعب معه من جديد، تتمنى لو تراه ويراها ولو لخمس دقائق، تجلس معه، تلمس كفيه، تسير إلى جواره مزهوة أمام قريناتها، كما كانت تفعل، يقول لها «أنت أحلى وحده فيهم»، فتضحك وترشه بالماء وتهرب مدارية غرورها. ثلاثة أعوام وهي لا تراه إلا من وراء نقابها في مرور عابر، أو لقاء مصادفة أمام باب بيتهم، يبتسم بحياء ويمضي، وتبتسم هي من وراء نقابها ولا يراها، كيف لو رآها اليوم وهي تدرج في أولى مراحل الثانوية، كيف لو رأى وجهها الجديد وصدرها المتفتح، وعينيها الحالمتين التي طالما أبحر فيها طويلاً دون أن يغضيا حياءً، هل سيقول لها: «أنتِ أحلى وحدة فيهم؟»، أم سيقول لها: «أنتِ أحلى وحدة في الوجود»، كيف كبر داخلها حتى أصبح هو كل عالمها، وما الذي جاء به الليلة بهذا القرب وهذا الوضوح؟
هل لأنها فكرت فيه قبل أن تنام؟ كل ليلة وهي تفكر فيه؟ هل لرسالته التي أرسلها على جوالها دخل في حضوره؟ تحفظها عن ظهر قلب، هي تحفظها من قبل وتعرفها وتغنيها، ولكنها حين جاءت منه صار لها طعم آخر، كانت الرسالة مختصرة: «أنا عنك ما أخبرتهم لكنهم لمحوك تغتسلين في أحداقي، أنا عنك ما حدثتهم لكنهم قرأوك في حبري وفي أوراقي».
رقصت طرباً وهي تقرأها، تأكدت أنه يفكر فيها كما تفكر فيه، ردت عليه: «ماذا لو لمحوك أنت تغتسل في أحداقي؟». لم يرد. هل كان السؤال صعباً أم أنه حمل الإجابة التي ينتظرها؟ وحدها ظلت تفكر في الإجابة بخوف. استيقظت جذلة، دخلت إلى الحمام بنشاط غريب لا يتناسب مع صباحاتها المدرسية الكسولة دائماً. استحمت وهي تغني: «سلّمْ لي عليه
سلّمْ، وبوّس لي عينيه بوّسْ»
طرقت أمها الباب بعنف: «بسرعة الباص على وشك الوصول».
يا لهذا الضجيج الذي لا يترك مساحة للفرح خرجت مسرعة، مشّطتْ، لبستْ، تعطّرتْ، صاحت فيها أمها: «ما هذا العطر الصارخ هل أنت ذاهبة إلى عرس أم إلى المدرسة، بسرعة يا بنت». لبست عباءتها، حملت حقيبتها وخرجت، كانت ترقص في كل حركاتها، كأنها لم تكن ذاهبة إلى المدرسة، كأنها ليست هي التي تستيقظ كل يوم كسولة ومكتئبة تجرجر أقدامها، وكأنها ذاهبة إلى المذبح. طبعت على خد أمها قبلة: «صباح الجمال يا ماما». وقفت أمها مندهشة: «ما هذه الحيوية والنشاط اليوم؟».
لم ترد، كانت اجتازت عتبة الباب مسرعة، عبرت الفناء رقصاً، فتحت الباب الخارجي، كان باص المدرسة واقفاً في انتظارها، فتح السائق الباب، دخلت مسرعة، أعطت السائق ظهرها، وقفت أمام زميلاتها، رفعت نقابها: «صباح الجمال يا بنات».
رد بعضهن صباح الجمال، وبعضهن صَفّر، وبعضهن ردد: «يا هوه إيش الجمال هذا والحيوية شكلك مختلف اليوم». أعادت نقابها، جلست في أول مقعد فارغ، وضعت حقيبتها في حجرها، تنهدت، أخرجت جوالها، كتبت إليه وهي ترتجف: لَمَحُوك.
* أكاديمي وقاص سعودي/ الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *