الحياة الحديثة ونقد الفكر التقليدي


*عبدالمعطي سويد

منذ أن خرجت البلاد العربية والإسلامية في العصور الحديثة من عباءة الاستعمار الأوروبي ونالت استقلالاتها، ولنقل تاريخياً أن ذلك قد بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر والمنطقة العربية تتطلع إلى التقدم والتطور والحداثة، وكان التوجه العام يميل إلى تحديث معالم الحياة، وتأمين متطلباتها المباشرة، أو ما يعنيه مصطلح الثقافة العربية الإسلامية ب “الحياة العاجلة”، وقد رأت الأغلبية العظمى من الناس في بلادنا أن الغرب الأوروبي وفيما بعد الأورو – أمريكي يقدم للعالمين العربي والإسلامي كل ما كان ولايزال يحتاج إليه من المنجز المادي للتقدم وفي كل جوانب الحياة، وبعبارة مباشرة لقد أسرع العرب والمسلمون في إرواء حاجاتهم الحياتية من خلال العلاقة مع الغرب المتقدم، ومن هنا بدأت – بمعنى ما – تتطور المفارقة التي أصبحت كبرى، أعني: الاكتفاء بالحداثة المادية المباشرة .

أدركت النخب الثقافية هذا الواقع فعملت على تجاوز (نقل المنجز المادي) وكل مقومات الحياة الاستهلاكية بلغة اليوم إلى المنتج الفكري والاتصال به، سواء عن طريق الاتصال المباشر، أو الاطلاع على المنتج الفكري بلغته المباشرة، أو عن طريق الترجمات إلى العربية، ولكن كان لهذه المحاولات في الاتصال مع المنتج الفكري الغربي الذي ظهر منذ البداية، أنه يصطدم مع المسلمات والمبادئ والعقائد والأفكار التقليدية التي تأخذ بها الشعوب العربية الإسلامية، ومن هنا فقد حاول أقطاب النهضة العربية التي ذكرنا تلافي وتجنب الصدام بين الثقافتين بل سعوا إلى الحوار، ولكن المفارقة المذكورة أخذت تتجلى في الرغبة في نهل كل ما يطيب للجميع من التقدم المادي، ومحاولة تجنب الناحية الفكرية .
حاول النهضويون إيجاد صيغة ما للتوفيق بين التقليد الفكري والحداثة المادية والأخذ ببعض الأفكار التي لا تتعارض والمسلمات السائدة، وبعبارة ثانية: العمل على التوفيق والترقيع على المستوى الفكري بين الحداثة الفكرية الغربية والتقليد الفكري العربي والإسلامي، المبني في الأصل على الأصول العقيدية الدينية، والدعوة للحفاظ على الهوية العربية – الإسلامية الموروثة تاريخياً من القرون الخمسة الهجرية الأولى للحضارة العربية الإسلامية، كذلك ذهبت بعض التيارات العربية – الإسلامية إلى الاحتماء إزاء الفكر الغربي الذي طالبت به بعض النخب التحديثية بمقولات الفكر التقليدي، والمطالبة بتجسيد المرحلة الراشدية وعهد النبوة في الفكر وأسلوب الحياة، فأصبحنا منذ حينها أمام ثنائيات “فكرية” في الساحات العربية – الإسلامية من قبيل الإسلام والغرب، والإسلام والمدنية، التقليد والحداثة، القديم والجديد، الليبرالية والمحافظة، الديمقراطية والشورى، القومية والإسلام، العقل والنقل بالمصطلح الفلسفي .
مثل هذه الثنائيات لم تكن مطروحة في عملية تناول المنجز المادي الغربي، أي عندما شرع العرب والمسلمون بالأخذ بالمنجزات المادية للغرب بينما أخذت الثنائيات الفكرية المذكورة مداها لتصبح متضادة، واتخذت مع مرور الزمن طابعاً تنازعياً وأحياناً صراعياً، لقد انتهى الأمر بالتيارات التقليدية أن رفضت جملة وتفصيلاً في الداخل والخارج كل أنماط التحديث الفكري وذهب بعضها إلى إلصاق تهمة (الجاهلية) لمن ينتقد الفكر التقليدي أو يرمي نفسه في أحضان الحداثة (المادية) وينبهر بتقدم الغرب .
عمل أقطاب النهضة كما هو معروف على التوفيق وإيجاد نوع من التوازن بين الحداثة والتقليد، وقد بدا منذ حينه أن هذا التوازن المختلق بين النزعتين كان هشاً ولم يقم على محاولة تغليب العقل مما أدى إلى تغلب التيارات التقليدية في الفكر والحياة وبذلك داهم الخلل الكبير التوازن، أو بلغة مباشرة لم تثمر محاولة التوفيق بين الضدين حيث وقف كل واحد منهما متسمراً عند حده، وتكرست معالم المواجهة والصراع على المستوى الثقافي بين الحداثة والتقليد بعد أن فشلت محاولات النهضة .
شهد العالم العربي في مرحلة ستينات وسبعينات القرن الماضي نقلة ونهضة فكرية في مجال نقد الفكر والخطاب التقليديين، ولعل لائحة الباحثين والدارسين والمؤلفين في العربية واللغات الأجنبية أكبر من أن يتسع المجال هنا لذكرها، ولكن يمكن لمن يريد من الباحثين اليوم أن يستأنس بما سيذكر ذلك لاستعادة الرؤى الفكرية الناقدة وتطويرها وإشاعتها في الفضاءات العمومية أن يعول على الجهود الجادة في هذا المضمار الذي يبدو لنا من الأهمية متابعته على ضوء تطورات الفكر المعاصر والثورة (المعرفية) التي توفرها وسائل الاتصال الإلكترونية، فهناك مثلاً: عبدالله العروي في “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، ومحمد اركون في أعماله المتعلقة بنقد العقل الإسلامي، ومحمد عابد الجابري في سلسلة تكوين ونقد العقل العربي، ونقد نقد للجابري ولجورج طرابيشي، وهشام شرابي، في نقد بنية المجتمع العربي التقليدي البطريركي (الذكوري – الأبوي)، وحليم بركات في تحليل بنية المجتمع العربي، ومطاع صفدي في الرؤى الفلسفية للثقافة العربية، وأدونيس في الثابت والمتحول في التراث ومواقفه من الفكر التقليدي، وعمل حسن حنفي في الحديث عن اليسار الإسلامي وحسين مروة في الاتجاهات المادية في الفلسفة الإسلامية، وصادق جلال العظم في “ذهنية التحريم” و”نقد الفكر الديني”، ونصر حامد أبو زيد في “نقد الخطاب الديني”، وطيب التيزيني في مشروعه في عرض الفلسفة العربية الإسلامية من وجهة نظر يسارية، وكتابات عبدالإله بلقزيز، وسيد القمني في “الأسطورة والتراث” .
كل ما ذكرنا من مثقفين – كانت لمحاولاتهم الجادة وقراءاتهم المختلفة للعقل التقليدي العربي – الإسلامي بحيث تطلعنا إلى أي مدى كان ممكناً تجاوز الأطروحات المختلفة للعقل المذكور، والنظر إليه نظرة عقلانية وناقدة تقينا شرور النظرات المتطرفة والمتشددة في النظر إلى الأفكار والحياة، وتمنحنا تغذية راجعة في غاية الفائدة النظرية والعملية ولكن مع الأسف العميق لم تتكون أرضية شعبية لكل هذه المحاولات الفكرية، ومن ناحية أخرى لو كان قد توفر الحد الأدنى من الذكاء والاستشراف المستقبلي للأنظمة التعليمية في العالمين العربي والإسلامي في مجال إعداد الناشئة وتنمية الروح الناقدة لكان مكان عرض كتب هؤلاء في النصوص الدراسية .
ولكن ما حصل ومنذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا هو التكريس لنمط التفكير التقليدي القائم وكما ذكرنا على آلية منطقية عف عليها الزمن أي: إما هذا أو ذاك . وإما أنا أو هو، إما نحن أو هم، وهل تضيق الأرض بأكثر من اثنين؟ 
_________
*الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *