العبقري .. بعد كل شيء


*جوزيف أبشتاين ترجمة ـ عادل العامل

لقد التقيتُ ستةً من الفائزين بجائزة نوبل، فلم يكن أحدٌ منهم، برأيي، قد اقترب من التأهّل للعبقرية. فقد فاز ثلاثة منهم بالجائزة في الاقتصاد. و كانوا جميعاً واثقين بشكلٍ فائق و أذكياء من دون شك على نحوٍ رفيع، لكنهم لم يكونوا متأثرين على نحوٍ كافٍ بأسرار الحياة، كما أعتقد. و فاز آخر بجائزة الفيزياء، لكنه كان في صحبتي يرغب في التحدث فقط عن شكسبير. و نال آخر الجائزة في البايولوجيا، و كان يبدو لي، خارج المختبر، رجلاً يفتقر للدقة. أما الأخير، فإنه فاز بجائزة نوبل للأدب، و كان أعمق شيء يتعلق به هو المدى الذي بلغه في لولبة حياته الشخصية. و بطريقةٍ ما، ينبغي أن يتذكر المرء أنه في العام 1949 مُنحت جائزة نوبل في الطب لأنطونيو ايغاس مونيز، و هو جراح برتغالي، لتطويره الإجراء المعروف بالجراحة الفصّية lobotomy. 

و يمكن القول بالتالي إن العبقري نادر الوجود. فقد كان شوبنهاور، الذي يُعتقَد بأنه عبقري، واحداً في مئة مليون.
و في هذا العالم إن لم يكن في غيره، يمكن أن يكون أكثر الفلاسفة تشاؤماً قد كان متفائلاً. فقد كتب شوبنهاور، و هو يميّز بين رجل التعلم و العبقري، قائلاً : ” إن رجل التعلم شخص تعلَّم قدراً كبيراً؛ أما رجل العبقرية، 
فواحد نتعلم منه شيئاً لم يتعلمه العبقري من أحد. ” فالعبقري ليس مجرد شخص لامع، ماهر، بارع، و أحياناً مُبهر؛ إنه إعجازي، بمعنى أن وجوده لا يمكن أن تتنبأ به، أو تفسره، أو تعلّله قوانين طبيعية أو دراسة علمية. و ربما كانت تعريفات العبقري أكبر من العدد الفعلي للعباقرة الحقيقيين الذين وُجدوا على الأرض. و تعريفي الخاص : سواء كان المرء عبقرياً في الفكر، الفن، العلم، أو السياسة، فإن العبقري مَن يغيّر الطريقة التي نفكر أو نسمع أو نرى بها العالم.
تضخيم العقود
قد شهدت كلمة عبقري، مثل كثيرٍ غيرها ( نجم، أيقونة، خرافي )، الكثير من التضخيم في العقود الأخيرة. فنجدها تُطلق على لاعبي كرة القدم أو البيسبول و المغنين، و كذلك العاملين في الشركات الاستثمارية و الطهاة الناجحين. و قد أعلن محررو Esquire في عام 1999 حين تولوا قضيةً مكرسة للموضوع ” إننا محظوظون لكوننا نعيش في عصر العبقرية “. و تضمنت قائمة مرشحيهم للعبقرية، من بين آخرين، الممثل ليوناردو ديكابريو، لاعب كرة السلة ألِن آيفرسون، المصمم توم فورد، العلاّمة في السياسة الخارجية فريد زكريا، الطاهي توماس كيلَر، عالم الكومبيوتر بيل جوي، و جيف بيزوس من موقع أمازون.
و مهما كان الواحد من هؤلاء، بارعاً، ماهراً، موهوباً، مخادعاً، ناجحاً بشكل هائل، فإن أحداً منهم لم يكن عبقرياً، و لا حتى قريباً من ذلك.
و السؤال الأول المتعلق بالعبقرية، بالمعنى الجذري، سؤال وجودي : هل حقاً للعبقرية وجود؟ فبالرغم من أن فريدريك نيتشه هو نفسه قد أعجب سابقاً بما اعتبره عبقرية الموسيقار الألماني ريتشارد فاكنر ( 1813 ــ 1883 )، فإنه لم يكن في كتاباته الأخيرة يرى ذلك، مشيراً في كتابه ( آخر الدفاتر Late Notebooks ) إلى خرافة قرننا ( الـتاسع عشر )، و هي الاعتقاد الخرافي بالعبقرية. ” و كتب في (Human, All Too Human ) : ” لأننا نحسن الظن بأنفسنا، و لا يمكننا أن نعمل مع هذا تخطيطاً للوحةٍ لرفائيل أو مشهداً يشبه واحداً في مسرحية لشكسبير ، فإننا نُقنع أنفسنا بأن القدرة على فعل ذلك شيء عجيب للغاية تماماً، حادثٌ غير مألوف تماماً، أو أن ذلك، إن كان لدينا حس ديني، نعمة من السماء. ” لقد كان العبقري، في العلم أو الفن، لدى نيتشه ، ليس بالأقل إعجازاً و لو فقط لأنه لم يوجد في الحقيقة و الواقع.

جانب منطقي
كان نيتشه يرى أن الإيمان بالعبقرية، إلى جنب كونه غير منطقي أو عقلاني عموماً، شيء خطير للغاية على أولئك الذين يصل الأمر بهم حد الإيمان بعبقريتهم هم. و يستشهد، كحالةٍ في هذا الإطار، بنابليون الذي تحوَّل يقينه بعبقريته ” إلى قَدَرية جنونية تقريباً، سلبت منه عينه النفّاذة السريعة، و أصبحت سبباً في سقوطه. “
و لم يوقف تشكيك نيتشه في عبادة العبقرية من تكوّنها هنا و هناك من حوله، مع وجود الكثير من الكهنة المساعدين على ذلك بالأسلوب الألماني المتفق عليه، حتى قبل أن يموت. 
و هناك حاجة إلى التمييز بين العبقرية و الموهبة. ” فالموهبة هي مثل قيام رجل الرماية بإصابة هدفٍ لا يستطيع آخرون الوصول إليه، أما العبقرية فهي مثل قيام رجل الرماية بإصابة هدف لا يستطيع آخرون رؤيته “، كما قال شوبنهاور. و الموهبة وحدها لا يمكنها أن تأمل في منافسة العبقرية، لكن و لا العبقرية يمكنها أن تستغني عن الموهبة. ” فالموهبة من دون العبقرية ليست بالشيء الكثير، لكن العبقرية من دون موهبة لا شيء “، كما كتب الشاعر الفرنسي بول فاليري : فأنا في الأيام الطيبة موهوب. 
أما شكسبير، فكان عبقرياً في كل يوم.
إن مَن هو عبقري حقيقي و مَن هو غير ذلك مسألة مطروحة للنقاش على الدوام. و دانتي، و شكسبير، و تولستوي على معظم القوائم. و كذلك الحال بالنسبة لهومر، سقراط، أفلاطون، و أرسطو، بين القدماء. و يمكن القول إن باخ، و بيتهوفن، و موزارت هم العباقرة الموسيقيون الذين لا جدال بشأنهم. و في الفن البصري هناك ليوناردو دا فنشي، و مايكل أنجلو، و رافائيل. مثلما أن في العلم أقليديس، و جالينوس، و غاليلو، و كيبلر، و نيوتن، و دارون. و في السياسة بيركليس، و الأسكندر العظيم، و يوليوس و أغسطس قيصر، و نابليون، و ونستون تشرشل، و المهاتما غاندي الذين يستحقون ذلك، مع وقوع لينين، و هتلر، و ستالين، و ماوتسي تونغ على الجانب الآخر.

مرادف فكري
و يمكن أن يضاف لهذا الخليط عباقرة ثانويون، و هم أولئك الذين، مع تألقهم، لم يؤثّروا في العالم بالطريقة الأساسية كما فعل العباقرة الأولون : و منهم ديكارت، و باسكال، و سبينوزا، و كانت، ، و رامبرانت، و ربما بيكاسو، و هايدن، و شوبرت، و دوستويفسكي، و ديكنز.
و مع أسماءٍ مثل كارل ماركس و سيغموند فرويد، ندخل المياه المعتمة للعباقرة الذين ربما يُعتبرون اليوم المرادف الفكري للمسيح الزائف. فقد جعل ماركس و فرويد الناس يرون إلى العالم بطريقة أكثر اختلافاً بكثير عما سبق، قبل أن يكتبا، لكننا نعلم الآن أنهما جعلا هؤلاء يرونه على نحوٍ زائف. 
و ما عاد معظم الناس يؤمنون الآن بالنضال الطبقي و لا بعقدة أوديب.
و قد انتهت صلاحية ماركس و فرويد للعبقرية، في الواقع. 
و إذا اعتقدتَ بأنك عبقري، فإنك على الأرجح لستَ كذلك. و قد حُكي أن أوسكار وايلد قال لموظف الجمارك على جزيرة أيليس حين زار أميركا عام 1882 : ” ليس لدي ما أعلن عنه غير عبقريتي. ” و كانت غيرترود شتاين (1) تصرّح بأن اليهود أنجبوا ثلاثة عباقرة فقط، يسوع المسيح، و سبينوزا، و هي.
و في كتابها ( السيرة الذاتية لأليس ب. توكلاس ) تجعل الآنسة توكلاس تقول إنها قابلت ثلاثة عباقرة في حياتها، ألفريد نورث هوايهيد، بابلو بيكاسو، و غيرترود شتاين.
و لم يكن وايلد و لا شتاين يشبهان العبقري في شيء. و لم تكن تلك العبقرية التي لديهما بشكل رئيس سوى من أجل التسويق للذات.
و يستشهد معظم الناس بألبرت آينشتاين باعتباره العبقري الحديث الأخير، و قد يضيف إليه المهتمون بالفلسفة الاحترافية الفيلسوف لودفيغ ويتغنشتاين (2). و الاثنان لديهما إغراء إضافي من خلال كونهما إلى حدٍ ما من البلهاء goofy (3)، و هو ما يتفق و النظرة الحديثة إلى العبقري، كما يبدو.
ففي فترة أسبق، لم يكن يُنظر إلى العباقرة كبلهاء و إنما كأصحاب أطوار غريبة إن لم يكن كمجانين. فقد كانت سنوات نيتشه الأخيرة يغلفها الخبَل، الذي عزّز سلطته، كما يظهر. و كان أول عبقري معترف به في العالم، سقراط، غريباً من نواحٍ كثيرة.
فقد كان، مع قبحه الشديد، و قواه المذهلة في التركيز، غير مكترث كلياً بشرفٍ، أو ثروة، أو حتى بوسائل الراحة المادية، و كان يخاطر بحياته في القتال، و يختار أن يقضي أيامه في النقاش و التأكيد على أنه لا يعرف أي شيء مبيّناً خلال ذلك أن محاوريه يعرفون حتى أقل منه، و تقبّل أخيراً قرار الجمعية الأثينية بأنه عدو الدولة و تناول السم عن رغبة منه. 
و كان آينشتاين، يمضي في شوارع برنستون ، بكنزته الفضفاضة، و شعره المُشعث و شاربه الكث و بلا جوارب، و كأنه ليس أكثر من الأخ الخامس في عائلة ماركس (4).
أما الفيلسوف ويتغنشتاين ، و هو سليل أسرة من فيينا ثرية و عصبية جداً، فقد بدّد ثروته الشخصية الكبيرة و احتجب في عقاب بدني حين راح يعلّم الأطفال الصغار في النمسا.
و كان يهودياً، لوطياً، و حاد الطبع، و قد وصفه بيرتراند رسل جازماً بأنه ” أكمل مثال عرفتُه للعبقري المتخيَّل تقليدياً؛ انفعالي، عميق، شديد، و مهيمن. “
عن / Commentary
* المقال في الأصل بعنوان I Dream of Genius و نقدم هنا القسم الأول منه. و يتناول القسم الثاني كتاب ( الغضب الإلهي : تاريخ العبقرية) لدارين م. ماكماهون.
(1) غيرترود شتاين ( 1874 ــ 1946 ) : أديبة و ناقدة أميركية من أصل ألماني.
(2) لودفيغ وتغنشتاين ( 1889 ــ 1951 ) : نمساوي، واحد من أكبر فلاسفة القرن العشرين.
(3) و يقصد بهم مَن نصفهم في العراق تقريباً بأنهم من أهل الله أو الذين “على نيّاتهم “، و ليس بمعنى الحماقة أو العته. 
(4)الإخوة ماركس : عائلة سينمائية كوميدية أمريكية اشتهرت في الثلاثينيات.
_________
*الصباح العراقية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *