*سامي البدري
إعلان القائمة القصيرة لجوائز بوكر هذا العام جاءنا من معرض الكتاب في المملكة المغربية هذه المرة، الذي تضمن إعلان عناوين الروايات الست التي وصلت إلى المرحلة النهائية لتصفيات هذه الجائزة (القائمة القصيرة)، إضافة إلى أسماء أعضاء لجنة تحكيم هذه الدورة، وهي كالتالي: الشاعر والروائي الفلسطيني مريد البرغوثي رئيسا، الشاعرة والإعلامية البحرينية، بروين حبيب، الأكاديمي المصري أيمن أحمد الدسوقي، أستاذ الأدب العراقي نجم عبدالله كاظم، والأكاديمية اليابانية كاورو ياماموتو.. وهذا يعني أن ليس بين لجنة (إفتاء) رواية بوكر هذا العام سوى روائي واحد، وهو البرغوثي، رئيس لجنة التحكيم، وفي المقابل هناك ثلاثة أكاديميين وشاعران، بعد فصل الشاعر عن الروائي، في مريد البرغوثي، رئيس اللجنة، لأنه وهو يعلن بيان القائمة القصيرة قال بالحرف الواحد: «إن اختيار وصول هذه الأعمال إلى القائمة القصيرة اعتمد بشكل أساسي على اللغة التي صيغ بها العمل الروائي، باعتباره فنا للكتابة، وبصرف النظر عن القضايا والمشاغل التي يتهجس بها». وهذا الكلام إن كان صادرا عن البرغوثي، كرئيس لجنة تحكيم مستقل الرؤية والقرار، فإنه يمثل رؤية واشتغال الشاعر فيه قبل الروائي، لأن الاشتغال في جسد اللغة هو من حفريات واهتمامات الشعر قبل باقي الأجناس الأدبية، لأنه الجنس الأكثر مطاوعة وتقبلا لمثل هذه الاشتغالات.. وهذا يعني، وهذا هو المهم، أن ليس بين لجنة فحص وتقييم جائزة مختصة ومكرسة للرواية، سوى نصف روائي، لأن رئيس اللجنة البرغوثي، وبحسب إعلانه، حدد اللغة معيارا أساسا لتقييم الأعمال واختيارها وليس أي عنصر فني آخر، من عناصر تكوين واشتغال الرواية الفنية… وهذا يعني تغليب نصفه الشاعر على نصفه الروائي، إن كان قرار الترشيح نابعا منه شخصيا كرئيس للجنة تحكيم هذه الدورة للبوكر العربية.
وهذا لعمري يشبه عملية جمع مجموعة من أطباء الأسنان وتكليفهم بإجراء عملية زراعة قلب، لأن طبيب الأسنان اسمه طبيب ولكن اختصاصه وممارسته للطب تختلف جذريا عن اختصاص وممارسة الطبيب المتخصص في أمراض وجراحة القلب وطرق زراعته.. وأيضا تشبه عملية تكليف مجموعة من النجارين بعمل خزانة للملابس من الحديد بدل الخشب، مادة صنعتهم وجسد مهارتهم!
يقول مثل أسلافنا «أهل مكة ادرى بشعابها» فلماذا تصر البوكر العربية أن تأتينا بدليل هندي أو صيني ليدلنا على شعاب مكة وأهل مكة حاضرون؟
نعم، قد يكون الدليل الهندي استاذا متخصصا في الجغرافيا… ولكن هل ستؤهله دراسة الجغرافيا، على مقاعد الدرس، لمعرفة شعاب مكة أكثر من أهلها الذين يعيشون فيها وقضوا حياتهم يدرجون في دروبها وبطاحها؟ بالقطع لا، وحتى لو اخترنا هذا الدليل من المشهود لهم في (حنكة صنعته) وبرصيد الخبرة الوفير الذي اتفق عليه نقاده.
هل يعقل أن لا يكون بين أعضاء لجنة تحكيم جائزة متخصصة في الرواية غير نصف روائي؟ وهل يعقل أن يكون معيار الاشتغال على اللغة هو معيار تقييم مستوى رواية، لا يمثل اشتغال اللغة فيها إلا عنصرا واحدا من بين عدة عناصر فنية أخرى، لا يمكن تجاوزها ـ العناصر ـ أو غض الطرف عن وهن أو ضعف أو غياب أي منها.. هي في الشعر، الذي يعتبر الاشتغال في اللغة من بين أهم عناصر نجاحه الفنية، لا يمكن اعتماده معيارا وحيدا، في ما لو غابت باقي عناصر نجاح القصيدة الفنية الباقية، فكيف في الرواية، التي يجب أن تتكاتف فيها عناصر الشخوص والحدث والبناء الفني والمعماري والحبكة و… و… إضافة إلى مغزى المضمون وقصديته وجدية طرحه ومعالجته؟ ولنا أن نتخيل هنا في ما لو كان، أبو الرواية الحديثة وأمهر صناعها، غابريل غارسيا ماركيز، قد اعتمد أو راهن في نجاح «مئة عام من العزلة» على عنصر اللغة من دون باقي العناصر، بناء الشخوص وغرائبية وتداخل الأحداث وسبك حبكة الرواية، فهل كانت تلك الرواية، التي أدهشت نصف العالم، أن تحقق كل هذا النجاح والنجاح في الدهش؟
نعم الأكاديمي الذي حاز شهادة رفيعة في دراسة الأدب أو نقده تعلم أشياء عن فنون الأجناس الأدبية، ولكنه في المحصلة يبقى عاجزا عن إبداع تلك الأجناس أو بعضها؛ وكذلك الشاعر… يعرف، عبر ثقافته العامة، عن الرواية الكثير، ولكنه يبقى عاجزا عن إبداعها ومعرفة هموم خلقها وإنتاجها، وهذا لعمري يشبه الفرق بين الفيلسوف ومن درس الفلسفة… وهو كالفرق ـ اختصارا ـ بين فريدريك نيتشه الفيلسوف والأكاديمي الذي حصل على شهادة عليا عن دراسة الفلسفة، فنيتشه الفيلسوف تفلسف وانتج الفلسفة، رغم أنه لم يكتبها بصيغة البحث الأكاديمي، والأكاديمي كتب عن فلسفة نيتشه وحاول شرح بعض ما تفلسف به نيتشه لا أكثر… فعلى رأي من يجب أن نعتمد في تقييم فلسفة نيتشه، على فيلسوف وجودي بحجم جان بول سارتر أو سورين كيركغارد، بصفتهما فيلسوفين وجوديين مثل نيتشه، أم على رأي من درس فلسفة نيتشه ولم (يتفلسف) يوما؟
الرواية، وكما قلت في العديد من مقالاتي، فن صناعة الدهش، وهو فن صعب المراس، ولا يجيده إلا قلة من بين العرب، ولهذا فإن من يقيمه، «خاصة إننا كعرب، مازلنا نحبو مؤسسين لقاعدة هذا الفن في ثقافتنا وطرق تعبيرنا عن أنفسنا، كأمة للشعر أو شاعرة»، يجب أن يكون فعلا ضليعا في فن صناعة الدهش، لأنه الوحيد الذي يعرف مضان وصعوبات وعوالم ومميزات هذا الدهش وطرق صناعتها ومديات تأثيرها وبلوغها لأهداف هذا التأثير.
ويبقى السؤال المحيّر لجميع المثقفين العرب، بصورة عامة، والروائيين بصورة خاصة، وكما حصل مع إعلان نتائج هذه الجائزة ـ البوكر العربية ـ في دورتها لعام 2014: هل هذه الجائزة تتعمد أخطاءها (الفنية) والفكرية في التقييم والنتائج، لغرض في نفس يعقوب، يستهدف تجهيّل وتسطيح العقل والذائقة العربيتين، خاصة عبر اختيارها لعناصر لجان تحكيمها، أم هي تعكس مستوى ثقافة أصحابها الركيكة وضحالة أفق رؤيتهم؟
الأمر الذي يثير الشك في نفس المثقف العربي بترجيح السبب الأول هو أن البوكر العربية هي ظل للبوكر البريطانية وتعمل تحت إشراف مباشر منها، أولا، وثانيا هو تصريح مندوبة البوكر الأم، في دورة عام 2014 ، الذي دافعت به عن أهلية ونزاهة لجنة تحكيم تلك الدورة، وأيضا امتدحت فيه النتائج والروايات التي منحت لها مكافآت الجائزة، وكلنا نعرف مستوى تلك الروايات ومستويات كتابها ومدى الحيف الذي ألحقته تلك النتائج بأهلية ومستوى الرواية العربية.
فهل للبوكر العربية أن تضيء لنا هذا الجانب المعتم، فقد توفرت بيدنا قرينتان ـ كي لا أقول: دليلان ـ عامي 2014 وقرينة هذا العام، لتزيل اللبس عن نصاعة ذمتها التي صارت موضع تساؤل للمثقفين والروائيين العرب؟
روائي وناقد عراقي/ القدس العربي