لا تحبّ … حتّى تدفع الثمن


*سيف سعيد السويدي

العالمُ غريبٌ بالإنسان. فكما يقول الناس: «الدنيا مثلما هي، إنّما الناس تتغيّر». لعلّ المقصود بالدنيا أرض، وسماء، وبحر، وتراب، وهواء، وغير ذلك مما ليس للإنسان فضل فيه. ومن المؤكَّد أنّهُ من يستشهد بهذه الجملة للتعامل مع موقفٍ ما، لا يقصد البشر. صحيحٌ أنّهم ما يزالون بشراً، ولكنّ أشياء كثيرة في فكر البشر قد تغيّرت. لو تخيّلَ البعضُ أنّ البشر قد تغيّروا، فربّما يأخذ بما رآه العالِمُ البريطاني الشهير «داروين»، من أن الإنسانَ قد تطوّر من سُلالةٍ تنحدرُ من عالم القِرَدة، ورُبّما- حسبَ ما نسَجَهُ في مقولةٍ مشهورةٍ: «البقاءُ للأكثرِ قُدرةً على التّكيف»- لقَبِلَ بنظرية داروين. ولو رغبَ من أرادَ أن يتخيّلَ كيف يكون ذاك العالم، عليه أن يشاهدَ «كوكب القردة» الذي اقتُبست منه أفلام عديدة كان أوّلها سنة 1968، وأحْدَثها في 2014، وتناولت جميعها الدُّنيا التي تسيَّدت القردة فيها على الإنسان، بسيناريوهات وحوارات مختلفة، صوّرت الشرَّ والخير حتى فيما بين القِرَدة. ولعلّ من لم يشاهد تلك الأفلام، فاتَتْهُ مشاهدة دقّة المكياج الذي تطلّبَ وضعَه للممثِّل الواحد حوالي ستّ ساعاتٍ، وجمالَ التفاصيل في تصوير عالم لم نعرفه، ومن المؤكَّد أننا لا نتمنّى أن تتهيّأ البيئة له كي يكون، ولكن السينما هيّأت لنا فرصة تصوُّره.

داروين عالمٌ بيولوجي عاش في الفترة من 1809 إلى 1882، إذ كان حاله حال الكثير من العلماء والباحثين والمنظِّرين الذين كانوا يتّسمون في الماضي- وربما هذا لا ينطبق على نظرائهم في العالم الحديث- باتّساع في المعارف، وتنوّع في الاهتمامات التي لم يمرّوا عليها مرورَ الكرام، بل تركوا بصمات ما يزالُ بعضها خالداً. حتى العلماء في البلاد الإسلامية مثل ابن سيناء، والفارابي، وابن رشد، والبيروني، وغيرهم، اتّصفوا بصفاتٍ من التنوُّع الفكري والإنتاج المتخصِّص الذي زهت به العقول، وتباهت به المكتبات. في أيّامهم، الدُّنيا هي الدُّنيا نفسها الآن. عاش فيها عامّة الناس الذين كانوا يَجْرون على قوت يومهم، وفيها تبوَّأ الملوك والأمراء والأثرياء مكانات مختلفة عن العامّة. وكان الجميعُ في تهافت على المال والثروة لسبب بسيط: المالُ عزوةٌ، كما يُقال. وفي هذا الموقع، العزوةُ مستمدّة من العزّة، أي القوّة والسند، كقول العرب: فلانٌ صاحِبُ عزوة، أي يركنُ على قوم أو أصحاب، وربّما، في الحاضر، على مواردٍ مثل المال تشدُّ أزْره. وفي الحقيقة، لا أدري إن كان من المقبول أن يستظلّ النافذون السياسيّون تحتَ هذه المظلّة. 
هذه حياةُ البشر، بغضّ النظر عن الحقبة التي يعيشون فيها. الناسُ لن يبالوا بالنقود، ولن يتقاتلوا عليها، فقط عندما يصبح لدى كلّ إنسان آلة يطبع بها الكمّ الذي يرغبُ فيه من النقود. ولكن، ما العيب في ذلك؟ لماذا الحسد؟ في الحقيقة، مرّت فترات على الشعوب كان فيها للأغنياء حقٌّ بوضع اليد في إصدار نقودهم الخاصّة. ولكنْ، للأسف، الحكوماتُ أقوى من الأفراد، وبذلك استطاعت الحكوماتُ أن تحتكر آلات طباعة النقود، وفوّتت على الكبار فرصه إعطاء أبنائهم من الأطفال إجابة شافية عندما يسألونهم: لما لا تشتري- يا بابا- لنا «ماكينة» طباعة فلوس، ونصبحُ مثل الناس الذين عندهم فلوس؟» ولكن، حتّى في عالم الأطفال، كثرة الألعاب يُفسدُ الرغبة في الاحتفاظ بها لأنها لن تكون ممتعةً، وطبيعيٌّ جداً أن يبدؤوا البحث عن ألعاب أخرى جديدة، ويهملوا السابقة. من هنا تنبعُ الخشيةُ من السماح للأفراد بتركيب وتشغيل «ماكينات» طباعة النقود، برغم ما يُقال عن أمل القادة والحكّام والرؤساء في رؤية شعوبهم سعداء. 
في أيام داروين، كان الغالي والنفيس هدايا للتاج البريطاني. في الحقيقة، كان ولوج العالم الجديد وما وراءه هو من منطلق الفوز بالثروة والشهرة والتميُّز. لو وجِدتْ في أيامه تليفزيونات ومحطّات فضائية، لكان طيفه على كل أثير، وهو يحدّث العالم عن المخلوقات التي جال في عالمها، والتصوّرات والنظريات والتحليلات التي جاء بها حول نشأة الإنسان وتطوّره. والأهمّ من هذا، لَجَمعَ من هذه المقابلات والصور في المجّلات والدُّمى التي تصوّره والمسلسلات الكرتونية والأفلام والوثائقية، وألعاب الـ«بلاي ستيشن»، ملايين كثيرة. مسكينٌ، مات قبل أن يرتاع من ذاك الرّيع. 
في عالم اليوم، الكلام في المحطّات بمقابل، ويُحسَب المقابل النقدي على أساس كلّ دقيقة، وفي حالات الناس الأقلّ شهرة، بوحدة قياس زمنية أطول، مثل أن يكون المقابل بالحلقة أو بالمسلسل أو بالفيلم. وربّما كان سيحصل على ما يتقاضاه المشهورون في العالم، مثل زين الدين زيدان الذي يحصل على ما يفوق عشرة ملايين يورو سنوياً، و محمد إبراهيم الذي كَوَّنَ ثروة في عالم الاتّصالات فاقت أربعة مليارات دولار، و أوبرا وينفري التي جَنَت من عالم البرامج التليفزيونية قرابة ثلاثة مليارات دولار، والشاعر بيرني توبن الذي قُدِّر دخله بخمسة وسبعين مليون دولار خلال عام 2014، و ليوناردو ديكابريو الذي جنى قُرابة أربعين مليون دولار في عام 2013.
لم يكن داروين الوحيد الذي فاتته الفرصةُ لجَنْي واصب عمله، ولو عاش مجنونُ ليلى، قيسُ بن الملّوح (24 هجرياً إلى 68 هجري) وحبيبتهُ وأمثالهما ممن تركوا لنا أمَلاً في حبّ بعيد المنال، وشوق بعطر الدلال، لحصلوا على نصيبٍ من ريع ما تناولته الأجيالُ – وستبقى- من حكايا المحبّين، ولصارت صورُهم مثل «دبدوب» في غرف الشباب والشابات، وربما في مِحْفظات من غاروا في العمر، وما زال لديهم أملٌ بحبّ جديد جامح يُعيدهم إلى أغاني العشق ومتعة الانتظار، برغم اختلاف أساليب التواصل التي قد يشعرون بنقص فارق في التعامل معها، لو قَدَّر الإلهُ ووقعوا في حبّ ربيعي. 
في الحقيقة، لو استطاع أحدٌ أن يثبتَ أنه من أحفاد قيس الذي عاش في العصر الأموي الذي امتدَّ من أربعينيات العام الهجري الأول (حوالي 41 هجري) إلى أواسط الثلاثينيات في القرن الهجري الثاني (حوالي 132 هجري)، لربّما تمكّن من الحصول على «حقوق الحبّ» التي تركها قيس للبشرية، من العرب، على وجه الخصوص. ليس هذا وحسب، بل ولَاسْتَعادَ حمى قيس وقبيلته، ولَباعَ القدَم المربّع بآلاف من النقود، ولعلّهُ يصبحُ محظوظاً إنْ وجد أنّ أرض الحمى تعومُ على بحر من ثروة طبيعية، ويستطيع أنْ يحظى بالكثير مما لم يَعُدْ على قيس من شعره الذي خلّده في عالم العشّاق، وربّما يجبُّ عن طول جدّهِ واجتهادهِ في الحبّ سطران حَفرا لوعة العشق في جدار الزمن الذي التاعت عليه قلوب من تجرَّعوا مُرَّ الهوى، حين قال:
أمرُّ على الديارِ ديارَ ليلى أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغَفْنَ قلبي ولكنْ حبُّ من سكنَ الديارا
فلو أُعطِيَ وَرَثةُ قيس 10 ريالات في عام 1710 ميلادي، وهو العام الذي شرّعت فيه بريطانيا أول قانون لحماية حقوق الطبع في العالم، واستثمروها بعائد سنوي في عالم العشّاق بنسبة 8 %، لأصبح بإمكانهم تأسيس جمعية خيّرية لتوفير الدعم العاطفي للمحبّين برأس مال قدره، في نهاية عام 2014، أكثر من 144 مليار ريال.
ومثال آخر ما قاله بشارة الخوري، الملقّبُ بالأخطل الصغير (من 1885 إلى 1968 ميلادي) اقتداءً بما يمكن أن يُسمّى الأخطل «الكبير» الذي عاش في العصر الأموي، لأنهُ إذا وُجِدَ صغيرٌ، فلا بدَّ من وجود كبير يُنسَب إليه، في قصيدة جميلة عذبة تتراقص عليها مشاعر المحبّين، وتغنّى بها أكثرُ من مطرب، منهم محمد عبدالوهّاب وفيروز:
بلّغوها إذا أتيتم حـِمـاهـا أنّني مُتُّ في الغرامِ فِداها
واذكروني لها بكلّ جمـيلٍ فعَساها تبكي عليَّ عساها
واصحبوها لتُربتي فعظامي تشتهي أنْ تدوسَها قدماها
يبدو أن الدُّنيا ليست هي وحدها التي تغيَّرت وستتغيَّر، حتّى رؤية الناس وفكرهم واهتماماتهم، إلاّ أنّهم كانوا، يستمتعون بعطاء من أعطوا بدون مقابل يُسدى إليهم، ومازالوا، وسيظلون كذلك.
____
*الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *