حسن نصّور
رواية أنطوان الدويهي «غريقة بحيرة مورَيه» الصادرة عن الدار العربية للعلوم ـــ ناشرون ودار مراد (2014) هيَ كتابةٌ بطبقات. نعني تلك الكتابة التي تبدو، في الظاهر، سطحا لغويّا متأنّقا إنّما تكون، باطنا، مهجوسة بتأويل الذات وتغريقها، من ضمن السرد، بشتّى أسئلة الوجود.
يتحكّم الرّاوي بالزمن السرديّ لنصّه، إذ يبدو، برغم اتساع هذا الزمن استذكارا وقصًّا وعرض أحداثٍ، خيطا واحدا يتمدّد شعوريّا على قدر تحوّلات الثيمة المركزية أي علاقة الراوي الشائكة بحبيبته «لورا». يتقن صاحب «حامل الوردة الارجوانيّة» (2013) استثمار المتخيّل/ الحلم في سياقاته السرديّة الواقعيّة . إنّها طبقة من الأحلام الذاتية تلائم الثيمة وتحيل اللغة في حيز وازن من السرد على رمزية يراد لها الاشارة أو الايماء الى مآلات الامكنة والشخوص «لم يعد الحيّ القديم موجودا إلا في مكان واحد في هذا العالم: داخل نفسي، ص42».
في العمق، يراكم الرّاوي الرئيسيّ خريج السوربون، عاشق مدينة السين، «باريس»، من جهةٍ، وابن الضيعة اللبنانية، بيئة النزاعات والطوائف والجماعات المتناحرة من جهة أخرى، أقول يراكم محاولات سرديّة مضنية لتأويل «ولهه» بحبيبته الفرنسيّة لورا. هنا يعرض السرد هواجس نمطيّة في العلاقة بين الشرق، إذ يرسخ حدس شعور الجماعة والهوية داخل الشخص والغرب الذي يهجس بفردانية لا تسع الشخصَ التفريط ولو بقدر ضئيل من مستلزماتها. إنّها ثنائية تحرّك، غالبا، مسار العلاقة المضطربة، فراقا أو لقيا، بين الراوي و «لورا». «بتّ أدرك الآن بوضوح أن تفســيري شخص لورا، وفهـــمي علاقــــتي المضطربة بها، من خلال ما سمـــيته «جرح نفسها» وما اعتبرته «المرض الباريسي» هو تفسير منقوص.. ص85».
والنص، نصّ الدّويهي، المرشح ضمن قائمة البوكر الطويلة (2015 )، إذ يحاول في تفريعاته السرديّة وعبر شخوصه، بطبيعة الحال، تفسير علاقة حبّ مرهِقة ومرهَقة، يظل مشدودا بكامل مفاصله إلى سؤال الموت. هذا السؤال بواقعيته وفجاجته وعدميته يمسك بمختلف منعطفات السرد الرئيسة ويحاول، مرة بشكل مباشر ومرات بآثار هذا السرد، استقراء الشخصيّات المتعدّدة التي يلقيها الراوي أسئلةً معلّقة على مشجب الذات والعلاقة. شخصيات قد يبتكرها السرد لوهلة ثمّ يحيلها مباشرة على ذلك الشكل العبثيّ من الموت الذي لا يبدو قابلا للفهم أو للتفسير. نسمي مثلا: ابنة «مرتا فارس» التي وجدت ميتة في فراشها ذات صباح بشكل صادم بالغ العبث/ وبشكل مواز، ابن «باميلا مور» زميلة «لميا» بموته المؤلم إثر حادث الباب الزجاجيّ المشؤوم/ «رامي بونار» الصبيّ الناجي من المجزرة ينتحر بإلقاء نفسه في النهر/ روزا جارة الراوي الرئيسيّ الباريسيّة التي تشبه لوحة القارئة تنتحر بطلقة ناريّة/ «فيليب هرمن» استاذ «لميا» ابنة «رؤوف سعادة» يفتك به السرطان.
وإلى ذلك، فالبحيرة «بحيرة موريَه»، الواقعة على مقربة من مدينة «أورليان» الفرنسيّة بجوار بيت اللواريه، تحيل العملَ من جانبيه، مفتتَحا وخاتمة،على نمط غامض وغريب من الموت/ المصير. إنها، أعني البحيرة، عاكسةً جاذب الماء، تقولب الموت لا باعتباره فعل انتحار بالضرورة بل أحيانا باعتباره صلة بالطبيعة تؤبد لحظة السعادة القصوى. إنّه نمط مثير لا يغلق ستارة الشخوص واقعيّا بالموت إلا لكي يعيد تقديمها مأزومة في ذهن القارئ، مدخَلا، مع قصة «عشيقيْ البحيرة» إذ قضيا انتحارا قبل يومين من زفافهما، وختاما مع «لورا» جثّة هامدة طافية على سطح بحيرة «مورَيه» إثر علاقة الوله التي أراد السرد، من خلالها، ما يشبه تأويل ذاتين لا تلتصقان حميميا وجسديا مرحليّا إلا بقدر ما تكونان بحاجة ماسة إلى الانفصال في سبيل سبر مساحات في الحبّ ظلت مبهمة عليهما. مساحات سوف تبقى عصيّة على الكــشف بمقدار ما تبدو ذات الراوي نفســها غير قابلة لاستيعاب مسارات وجودية في الحياة ربّما تلزمه التسليم بعبثية الأقدار.
-السفير