*د.بليغ حمدي إسماعيل
( ثقافات )
وَيُعَانِقُنِي وَجْهٌ أزْرَقُ يُشْبِهُ الوَرْدَ ،
هَا أنَا الآنَ أَسْتَعِدُّ لِفَاتِحَةٍ جَدِيْدَةٍ للكِتَابَةِ ،
أوْ لِحِصَارٍ جَدِيْدٍ ..
يَقِفُ مُمْتَقِعَاً على حَافَّةِ المَدِّ ،
أنْظُرُ للبِنْتِ الجَمِيْلَةِ ،وأُسَمِّيهَا مدىً ؛
يَفْتَحُ أعْضَائِي عَصَافِيْرَ هِجْرَةٍ ..
مَا عَلِمْتُ أنَّ العُصْفُوْرَ أَجَادَ القِرَاءَات،
وتَعَلَّمَ كَيْفَ يَكْتِبَ نَصَّاً يَعْبُرُ المَسَافَاتْ
أَلْهُو مَعَ البِنْتِ الجَمِيْلَةِ ،
وَأُطْلِقُ عَلىَ لَهْوِي مَعَهَا جَدَّاً ،
التَّفَاصِيْلُ الحُبْلَى تَرْسِمُ جَبْهَتِي قِنْدِيْلاً ، وَيَنْطَفِئُ
فَوقَ الأرْصِفَةِ الخَائِنَةِ لِسَرْدِي ..
أن تحاولي للمرة قبل العد ، تغيير سُنَّةٍ ؛
هي أغنية حزينة
فالصَوْتُ : أحبُّك ،
والصَّدَى وَجَعٌ يَنْخرُ بِأعْمِدَةِ الدَّمِ..
والصَّوتُ : أحبُّكِ ،
والرَّجْعُ مجافاةٌ ، آنَ للزُّرْقةِ انحسارٌ ،
فيكشف عن عُرْيٍّ أنَا أخُطُّه مَوتاً جميلاً ،
أو اعتَادتْ البنْتُ الجميلةُ أنْ تحْتفي بهِ
كمَوتٍ جديدٍ ..
وهذا الشِّتاءُ ، الذي لا ينبئْنِي بموتٍ قديمٍ
لا يسْقُط في البَرْد قتيلاً ، لكِنَّه
يتَّكِئ عَلَى جَوعِي وقَلبها ، فيُورثني سَفَراً طويلاً لا رَاحةَ في جَزْرِهِ ، ويمنحها مواعيدَ أمامَ البابِ الخشبي الأخضرِ .
إنه الشِّتاءُ ، الذي يفجؤني بدهشتِه،
ويفجؤ دهشَتي ،
بامْتدادِ دورةِ أنوثتِها ، وشَرَهِ شهْوتي لمسَاحَاتها المحاصَرةِ،
فيزدادُ الشِّعرُ رقةً ،
وينحسِر الشَّرعُ انْبِهَاراً ..
يكْفِيك أن أعْطيك شِعْراً ، وتدقُّ
أمِّي بِرأسِ حَجرٍ عَلى صَدْري ،
فيفتق سماءً وأرْضاً بعدَ رِتقٍ ،
يكفي أنْ أمُوتَ هذا العامَ من القَرنِ الأوَّلِ،
ممسِكاً سمَّاعة الهاتفِ ليْلاً ،
أو مجْترئاً بدخولِ الحِصَارِ مُنفَرداً …
هكذا
أُصْبِحُ غَريباً في الزُّرقةِ ، واشْتعال يركض ،
نحوها ، يلعن اضْطراباتها الدَّوريَّة ،
ويترك مَسَاحاتٍ فارغةً للكِتابةِ ،
عن غُرفٍ بيضاء ،
فاعْطِيني صُورَتكِ أيتها الزُّرقَة عَاريةً ،
أو جَبِيناً يملؤه العَرَق ،
وابْكِي مثل الرَّمْلِ ، عَلى الشَّمسِ ارْتحالاً ..
لهذا أغنِّي ؛
للزُّرقةِ أسْفل العَينين وَجعاً ،
أو لموَجِها في عَينِ البَنتِ الجميلةِ ،
وتظلُّ أعْضَائي مُحَاصَرةً عِند غُرفٍ مُوصَدةٍ ،
لا أمنحها عَرَقاً يجدِّد عَلاماتي الليلكية ،
وتظل أمِّي خمْسةً وخمسين عَاماً تَرسم ؛
ظِلاً ،
ودَاراً ، وأكْرههُ ..
هذا الشِّتاءُ
يَزدَادُ الطَّمْيُ كَثافةً ، فآهٍ لوْ تدركين
أني أحاولُ فوقَ خارطةِ الجَسَدِ هرولةً
أحبُّ بِلادي أكثرَ ،
وأصِيرُ جُنْديَّاً ، جُندياً أصير ، يمنحني التَّاريخُ فُرصةَ
الكتابةِ عَاشقاً ، يُدرك كنهَهُ ،
ويحتمل عِبءَ الوَسَاخةِ ، وانحسارِ الزُّرقةِ ..
إنَّ للمُوسِيقى اجْتيَاحاً بحَجْمِ الشَّكِ ،
من يمنح فِوضَايَ لُغَةً تُشْبهُ الزُّرقةَ اتِّسَاعَاً ،
وتُخْرِجَ الدَّمَ الدَّاكن خلفَ انحِسَارها ،
إني أغَنِّي ..
والموْسِيقَى تجَئ خَلفِي عَلَى عَجَلٍ ،
عَلى خَجَلٍ ،
هي كالبِنتِ الجميلةِ أغنيتي ، أو رِيحٍ عاتيةِ ،
تهجرُ العصَافيرُ شمالها،
وترْقصُ في فَضَاءِ العَورةِ ، يَلعَنُها العَطَشُ ..
يُعانِقني الوَطَنُ ، والزُّرقة تنْحَسِر في الجَهاتِ الأرْبعِ ،
وأعَانِقه كشَاطئٍ يَرتعد جَوعاً ،
حينمَا أسْتحِيلُ شَعباً مُطْلقاً ..
أيَّتُها الزُّرقةُ ، لنْ أَسْقُطَ في امْتحَانِ العشقِ ،
وأنتِ تَنحَسرين ،
إني أذاكِرُ مزاميرَ الحِصَارِ ، وأردِّدُ
شِعْرَ الضَّفيرةِ في فَمي ،
أمَّا دَمِي
فأكْرَه لَونَه ، وألْعَنُ رَكْضَ أيَّامِي ،
فالدَمُ مُحَاصرٌ ..
والسَّفر مُحَاصرٌ ،
والزُّرْقَةُ تَنْحَسِرُ خَيطاً ، أوْ جَدَوال شَرفٍ ..
أيحسَبُ البَحْرُ أنِّي خُنْته ، فَكَتَبَ الحِصَارَ عَليَّ ،
لا أمْلِكُ للزُّرْقَة تَأويلاً ،
فالبِنْت الجَميلة فَضَاءُ النَّصِّ ، وتُشَرِّع جَسَدي ،
وتُسْرج جَوادِي الأزهرْ ..
وفِيكِ أفكِّرْ ..
وأُحْدِثُ ضَجَّةً حين أرَاكِ ،
فكَيف يَكُونُ الحُبُّ وَجْهاً للدَّهْشَة ،
وكيفَ يَصِير انحْسَاراً ؟ ..
هذا الشِّتاءُ ، تُعانِقني كلُّ الوجُوهِ الغَائبةِ ،
ويتَّسِخ وَجْهِي دَماً سَاعَاتٍ طَويْلة ،
فيمْتَزج الأحْمرُ بالزُّرقةِ ، تحْبلُ البِنْتُ الجميلةُ ،
بِي ،
ويُصِرُّ الوطنُ عَلى أنِّي وَلدُهُ …