الثعلب والعنب غزل الأدب والحرية


*فريد نعمة

من منا لا يعرف ايسوب؟ من منا لم يقرأ أو يسمع حكاية «الثعلب والعنب»؟ هذه الحكاية التي وثقتها المدارس والمراكز الثقافية والتربوية في شتى أنحاء العالم، وأبدع الأدباء والفنانون في إعادة صياغتها بقوالب من الشعر والنثر والصور والرسم والغناء والموسيقا. الذي لم نكن نعرفه أن الأديب البرازيلي غيليرمي فيجيريدو، سيروي لنا حياة ايسوب في حكاية كتبها ايسوب!

نعم، ايسوب وسيرته خلال حكاية كتبها بنفسه! إبداع ذكي لا يخطر على بال ايسوب ذاته. وفي العموم، ينظر نقاد عديدون إلى المسرحية، على أنها مثال ونموذج فريد لغزل الأدب بالحرية وقرانه معها.
البلبل في القفص
تبدأ المسرحية بدخول العبد الدميم ايسوب، الحجرة الواسعة حيث تقف كلايا الجميلة. ترميه كلايا بنظرة ازدراء: ما أبشعك! فيرد عليها بنظرة إعجاب: كم أنت جميلة! ثم يجلس على الكرسي ويغمض عينيه ويروي حكاية «الطاووس وطائر اللقلق»: يتباهى الطاووس بريشه الجميل ويعيّر اللقلق بريشه الخفيف البشع.
يرد عليه اللقلق بأن ريشه ليس جميلاً، لكن جناحيه البشعين يستطيعان أن يحملاه إلى الشمس ثم يطير عالياً والطاووس الجميل ينظر إليه مبهوتاً لأنه لا يستطيع أن يطير. ترميه كلايا بنظرة إعجاب وتفتح باب القفص لتلهو به كما تلهو الطفلة بدمية متحركة. يدخله ايسوب ويغني كالبلبل في القفص: كلايا… أنا حر… أنا حر.
العنب الحلو
يعود السيد النبيل اكسانتوس من مجلس الحكماء مسرورا، بعد أن بزّ أقرانه بالمنطق والحجة ويتجه صوب الكرمة ليحلي ريقه بالعنب اللذيذ من ايسوب القبيح. يطلعه على ما جرى.. ويفتخر بما فعل ثم ينتظر الزاد منه. كان يستغل ذلك العبد المتوقد الذهن وصاحب الفراسة الصادقة.
يزوده ايسوب بجرعات من الفلسفة والحكمة للجلسة القادمة ثم يروي له حكاية مناسبة ينقلها اكسانتوس الى مجلس الحكماء ويدعي بأنها من بنات أفكاره. بعد ذلك، يطلب ايسوب منه، ما طلبه عشرات المرات، أن يعتقه. فيهدده اكسانتوس بالجلد بالسوط الحبشي، ثم يسير الى مخدع زوجته تاركاً ايسوب يحلم بذلك اليوم حين يصبح حرا.
الدميم المحبوب
كل من في القصر يحب ايسوب، فهو يُدخل الفرحة الى القلوب بحكاياته الفكاهية ويصفع الخدود بنقده الساخر، ولا يتوانى عن مساعدة المنكوب وتقديم النصائح والحلول. ومثلهم سيدة القصر كلايا التي كانت تعامله كعبد تافه وتلوّح له بالسوط الحبشي.
إذ إنها أحست بجمال روحه ودفء قلبه، فعشقته وأحبت أن تروي قلبها بمناهل الحب منه. غير انه لم يطاوعها مع أنه يحبها. كان يرى بعقله النيّر أن الحب بين السيد والعبد يمثل طوقاً جديداً من أطواق العبودية وهو لا يريد من الدنيا شيئاً غير الحرية. فغضبت عليه واشتكت لزوجها بأنه راودها عن نفسها. لكن زوجها لم يعرها اهتماماً، إذ كان متورطاً في مأزق وفي أمسّ الحاجة إليه.
اشرب ماء البحر
يشتهر اكسانتوس بفضل ايسوب ويذهب صيته بين الناس بأنه فيلسوف مجلس الحكماء. وفي أحد الأيام يستضيف جنرالاً معجباً بفلسفته، فيتباهى بمنطقه ويجرع كؤوس الخمر حتى يغيب عنه وعيه وإدراكه، فينفش ريشه كالطاووس ويدفعه غرور المخمور الى التعهد بشرب ماء البحر، وإذا لم يستطع فإنه سيتخلى عن قصره وأملاكه للجنرال.
وحين تذهب السكرة وتأتي الصحوة، يلجأ الى ايسوب راجيا الحل. يطلب ايسوب منه أن يعتقه، فيرفض. عندئذ يصرخ ايسوب في وجهه: اشرب ماء البحر، يا اكسانتوس. أخيراً يوافق اكسانتوس على تحريره ويتوسل الخلاص. فيقول له ايسوب: اطلب منهم أن يفصلوا مياه الأنهار عن مياه البحر حتى تستطيع أن تفي بوعدك وتشرب ماء البحر.
العنب الحامض
يخرج اكسانتوس من الورطة رافع الرأس، لكنه سرعان ما ينكث بوعده ويرفض أن يعتق ايسوب . فقد صعب عليه أن يتخلى عن نبع الذكاء والحكمة. تتدخل كلايا والجنرال ويضغط عليه الأعيان، فيوافق مكرهاً ويعطي ايسوب صك الحرية. الآن وقد أصبح إنساناً حراً، يكشف ايسوب عن حبه الكبير للجميلة كلايا، ويقدم لها الصك قائلاً: خذيه يا كلايا..
حرريني أو أبقيني عبداً. تتأمله كلايا بعيني العاشقة المعجبة والفخورة بمن تحب، وتنبس: أنت حر. أما اكسانتوس المتحسر على خسارته، فيتظاهر بعدم المبالاة ويقول: أنا لا أريده. إنه عبد تافه، إبريق فارغ. لقد أخذت منه كل شيء، ولم يبق فيه شيء يبل الريق.. وعندئذ، يروي ايسوب حكاية الثعلب والعنب.
حر الى الأبد
لا يكاد ايسوب ينعم بالحرية حتى يوقعوا به في فخ ويتهمه الكهنة بسرقة الكأس من المعبد، وعقاب سارق كأس المعبد الإعدام إذا كان حراً والجلد إذا كان عبداً. وتقوم كلايا بمحاولة شهمة لإنقاذه، ويخيّره اكسانتوس بين العودة إلى بيته عبداً أو الموت. يقول له ايسوب:
إذن هناك نوعان من العقاب للسارقين، عقوبة للأحرار وأخف منها للعبيد، حسناً أنا أختار عقاب الأحرار. وداعاً يا كلايا، أنا حر.. لا أحد سيلمس جسدي بعد الآن، لا السوط الحبشي ولا نظراتك. أنا حر، أنا وحدي أقرر مصيري، وداعاً، يا كلايا.
المسرحية وشخصية ايسوب
نالت هذه المسرحية استحسان القراء والنقاد والمشاهدين، وقطفت باقة من الجوائز العالمية. وربما يعود بعض الفضل الى حكايات ايسوب وتوظيفها الناجح لشد خيوط الحبكة. ويمكن انه يعود بعضه الآخر الى بناء شخصية ايسوب كعبد يسعى الى حريته وفي الوقت نفسه ينكر ذاته ويتسامى فوق معاناته لأجل مصلحة وخير الآخرين.
لكن الفضل الكبير يعود الى النهاية المشرّفة التي تليق بمكانة ايسوب في التراث الانساني. إنها أول عمل أدبي يجعله يموت بطلاً! فالمصادر عن حياته قليلة وحتى الآن يختلف الباحثون حول موته. يقول أحد المصادر إن بعض أهالي مدينة دلفي قتلوه حسدا وغيرة منه أو لأنه سخر من بعض تقاليدهم، وسوغوا قتله بأنه كان مصاباً بمرض معدٍ ومن الضروري قتله حتى لا ينتشر الوباء.
الحامض والحلو
تُعد هذه المسرحية أول عمل مسرحي تصدّره البرازيل الى الأدب العالمي، وأول مسرحية تمثلها في المهرجانات المسرحية الدولية. ولاقت ترحيبا حاراً في فرنسا وحصل مؤلفها على ميدالية المقاومة الفرنسية ودرجة فارس في الفن والأدب. ولاقت ترحيباً مماثلاً في النمسا وألمانيا وبولونيا والبرتغال ثم في القارة الأوروبية.
_____
*البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *