رجاء بن سلامة بين مقاومة القمع والتّهديد بالقتل


*عبدالدائم السلامي

تصرّ الكاتبة والباحثة رجاء بن سلامة، أستاذة التعليم العالي والمحلِّلة النفسانية التونسية ومديرة موقع الأوان الإلكتروني، على تجديد النظر بجرأة وتبصُّر كبيريْن في قضايا المسكوت عنه التي تَمورُ داخل ثقافتنا العربية الإسلامية سواء في مدوّناتها الأدبية أو الفقهية. وقد أصدرت في هذا الشأن مجموعة من الكتب منها «الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاريّ ومسلم» و»العشق والكتابة: قراءة في الموروث» و»بنيان الفحولة: أبحاث في المذكّر والمؤنّث». وكانت رجاء بن سلامة استقالت من حزب «نداء تونس» وطرحت استقالتها هذه اسئلة عدة سياسية وثقافية. في هذا الحوار، نتعرّف بعض آرائها في الأنوثة والكتابة والسياسة.

> هل من السهل على كاتبة تنتمي إلى ثقافة عربية مُسيَّجة بالمحاذير والإكراهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية أن تُخضع المسكوت عنه في المعيش العامّ إلى مساءلات فكرية جريئة؟
– تجنّبتُ طرح هذا السّؤال طويلا، لأنّني لم أكن أريد لعب دور الضّحيّة. ولكنّني الآن في منتصف العمر، ويمكن أن أقول إنّ السّياق الذي وُجدتُ فيه، أنا وغيري من مجايليّ، سياق مرهق. لو ولدت في اليابان أو في الولايات المتّحدة، لكنت أكثر اهتماماً بالبحث في مجالات محدّدة، ولكانت مساهمتي فيها أكبر. بلداننا تؤرّقها قضايا الذّاكرة والهويّة والحرّيّة وتنعكس علينا هذه الهموم. والحلّ الذي وجدته، ربّما في غفلة منّي، هو أن أجعل أبحاثي وكتاباتي لصيقة جدّاً بحياتي، وبكوني امرأة. فالمرأة لها نصيب أكبر من المعاناة الفرديّة. عندما تُولد امرأة في بلداننا، فإنّها كثيراً ما تقضي جزءاً كبيراً من شبابها وهي تثبت للآخرين، من الرّجال والنّساء، أنّها تستحقّ شهاداتها ومنصبها، وأنّ الرّجال لم يكتبوا ما كُتب بدلاً عنها. وبعد أن تثبت هذا تبدأ معارك أخرى. تطلّ الإصولية السّياسيّة لنحاول قضم الحقوق والحرّيّات. فتستأنف معارك الثّمانينات والتّسعينات بعد أكثر من عقدين، وهي تقاوم اليأس، ولا تريد أن تقول «ما أشبه اليوم بالأمس». وتنتقل من مقاومة الرّقابة والقمع إلى مقاومة التّهديد بالقتل. هذا حالي وحال الكثيرات.
> هل فارقت المبدعة العربية الحديثة خانتيْ «الغزل» و»البكاء» اللتيْن ارتضاهما لها موروثنا الإبداعي القديم؟ هل يدخل هذا ضمن قولك بالإقصاء الرمزي الذي مُورس، ويُمارس، على المرأة؟
– تمرّدت المبدعة العربيّة الحديثة فلم تعد نائحة على الرّجال، أو موضوع غزل الرّجال. أصبحت تنتج الشّعر والرّواية، وقد دخلت سباق الجوائز كما دخلت سباق الانتخابات. لكنّ مجتمعاتنا تنتج أشكالا مختلفة من التّعمية على النّساء وعلى إنتاجهنّ. فالمشاهد الثّقافيّة والإعلاميّة والسياسة ما زالت ذكوريّة. رأيت منذ سنتين معلّقة لمؤتمر عن الشّعر العربيّ تحتوي على العشرات من الصّور الفوتوغرافيّة للشّعراء. اقتربت منها وتأمّلتها، فوجدت شيئا مرعبا، لم أرَ من بينها صورة امرأة واحدة.
> الكتابة والعشق والفحولة والجسد وحرية المُعتَقَد وحقوق المرأة هي من الثيمات الرئيسة التي انصبّ عليها جهدُك البحثي، فهل مازالت هذه المسائل تحكم رِقاب الفكر العربي في القرن الحادي والعشرين؟
– فعلاً هذه تيمات أساسيّة في كتابتي. وهي تيمات مهمة في مجتمعات تمارس الرّياء الأخلاقويّ والايديولوجي، فتتظاهر بأنّ الجنسانيّة غير مهمة، وتقسّم حياتها إلى قسمين: ظاهر وباطن. بل ما زالت مجتمعاتنا تقمع المحبّين كما في كتب الأدب القديمة. في كلّ عام نجد مجموعة كبيرة من الشّبّان والمراهقين ينتحرون بسبب منعهم من الزّواج بمن يحبّون، أو بسبب رفض اتّجاهاتهم واختياراتهم. والمنطقة العربيّة تعدّ استثناء في ما يخصّ هضم حقوق النّساء وإخضاعهنّ إلى منظومات قانونيّة عتيقة. هناك تطوّر، ولكن مازلنا بعيدين عن مجتمعات أخرى ربّما تكون المنزلة البشريّة فيها أخفّ وطأة ممّا عندنا.
> تتنازع مستقبل تونس رغبتان كُبريَان ومتصارعتان: واحدة مدنية وثانية دينية، وقد انتصرتِ في مواقفك للأولى منهما، ألا يوجد سبيل إلى التوفيق بينهما في نموذج سياسي يحقّق نهوض البلاد الحضاري دون إقصاء أحد؟
– انتصرت قبل صوغ دستور 2014 وقبل الانتخابات الأخيرة إلى المشروع المدنيّ المتلائم مع الدّيموقراطيّة وحقوق الإنسان، ولكنّني في الوقت نفسه كنت ضدّ الإقصاء وضدّ الحلول التي تلغي الصّراعات بدل موضعتها وتحويلها إلى جدل سياسيّ. ولذلك حاولت أن أساهم في ممارسة الضّغط على حركة النّهضة حتّى تتغيّر هي نفسها وتستبطن في سلوكيّاتها وأدبيّاتها النّموذج الدّيمقراطيّ. وقد قدّمت هذه الحركة تنازلات، ولكنّها لا تزال في حالة مخاض. ما نأمله هو أن تتحوّل هذه الحركة إلى حزب سياسيّ مدنيّ محافظ، مثل كلّ الأحزاب اليمينية المحافظة الموجودة في الدّيمقراطيّات. عندها يمكن أن نتخلّص من مخاطر الاصولية السياسية، ومزالق التّيوقرطيّة.
> امتدحت الباحثة ألفة يوسف، في مقال لها على صفحتها في الفايسبوك، مفهومَ الشيخوخة الذي يعيب به بعضهم حال الرئيس الباجي قائد السبسي، ألا يُعدّ هذا مثلاً لإدمان الثقافيِّ وظيفةَ تبرير السياسيِّ وتجميلِه؟
– لا أعتقد أنّ ألفة يوسف قامت بوظيفة التّبرير السّياسيّ عندما دافعت عن الشّيخوخة. انساقت ألفة في حركة الدّفاع عن الدّولة والنّموذج الحداثيّ مثلي، وإن اختلفنا في بعض الأمور. وقد كان أمامنا مرشّحان فحسب، أحدهما اعتبرناه يمثّل خطراً على الدّولة واستقرارها. ولذلك ساندنا خصمه. ولو وجد من هو أفضل من هذا الشّيخ لساندته شخصياً. والسّياسة هي فنّ اختيار الأقلّ سوءاً.
> يزعم بعضهم أن الأسباب التي ذكرتِ في بيان استقالتَك من حزب «نداء تونس» إنما هي أسباب تُغطّي أخرى خفية وصورتُها أنكِ لم تحقّقي مطمحَك في بلوغ منصب مهم في الدولة. ما مدى صدقية هذا الزعم؟
– أعلنت دائماً وأبداً عن زهدي في المناصب، على رغم احترامي لمن لهم طموحات سياسيّة. وقد استقلت يوم الإعلان عن انتصار مرشّح حركة «نداء تونس» في الانتخابات الرّئاسيّة حتّى أترك السباق لغيري، وأعود إلى موقعي المفضّل، وهو موقع المثقّفة النّاقدة. ساندت حركة نداء تونس وقبلت أن أكون عضواً في مكتبها التنفيذي الموسع عندما كان الكثيرون نافرين منها، على أساس أنّها تضمّ بعض أنصار الحزب الحاكم الذي تمّ حلّه. وكنت أرى أنّنا في حاجة إلى حركة تجمع القديم إلى الجديد داخل ديناميكيّة ديموقراطيّة. وبعدما تحوّلت الحركة، التي كانت منبوذة، إلى أكبر حزب في البلاد، رأيت أنّ مكاني يجب أن يكون خارجها.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *