*أبو بكر العيادي
لا يزال الماركيز دو ساد يشغل الكتاب والمثقفين الفرنسيين منذ القرن التاسع عشر، وقد عاد الجدل حوله هذا العام بمناسبة إحياء المئوية الثانية لوفاته، من خلال معرضين بمتحف أورسي ومعهد الآداب والمخطوطات بباريس، وطبع أعماله كاملة في سلسلة “لابلياد”، أو إعادة نشرها متفرقة في “كتاب الجيب”.
فريق يعدّه أيقونة من القلائل الذين وُلّدت من أسمائهم نعوتٌ مثل كافكا ومكيافيلي، وفريق ثان لا يرى فيه أكثر من كاتب متواضع وفيلسوف متهافت وثوريّ مزوّر ورمز للشر بكل معانيه.
افتتن الفرنسيون منذ مطلع القرن الماضي بدوناسيان ألفونس فرانسوا دي ساد (1704- 1814) الشهير بالماركيز دي ساد حتى حاز في الأذهان صورة أقرب إلى الأسطورة. فبعض المثقفين جعلوه رمزا وأضفوا عليه صفات مثل “محطّم التابوهات” و”محرّر الحياة الجنسية” و”الثوريّ” و”المناصر للحركة النسائية” قبل الأوان والسبّاق إلى اكتشاف اللاشعور قبل فرويد نفسه… والحقيقة كما يبين الفيلسوف ميشيل أونفري في كتابه الأخير “شغف السوء، حول ماركيز رباني مزعوم” هي عكس ذلك تماما.
فالرجل كما يقول “محترف اعتداءات جنسية ” و”ثوري متخفّ في جلد أرنب”، وسجنه لم يكن بسبب أفكاره وإباحيته كما يشاع بل بسبب جرائمه الجنسية وتعذيبه ضحاياه، فقد سجن مرة أولى عام 1763 في فنسان بعد اعتداء جنسي فظيع على عاملة شابة، ثم حكم عليه بالإعدام غيابيا عام 1772 بعد اعتدائه بالعنف نفسه على أربع بغايا، فرّ إثرها إلى إيطاليا ولم يقبض عليه إلا عام 1784، حيث تم نقله إلى الباستيل فسجن للمرة الثانية. ثم قاده تلونه السياسي كما سنرى خلف القضبان مرة ثالثة عام 1794.
تحطيم الأسطورة
في هذا الكتاب يحطّم أونفري أسطورة ساد التي انبنت على مغالطة تاريخية لم ينهض إلا القليل لتصويبها أو دحضها مثل آنّي لوبران أو موريس لوفير. هذه المغالطة سببها الشاعر أبولّينير الذي دُعي عام 1909 إلى وضع مقدمة لأنطولوجيا تضم بعض نصوص ساد قصد نشرها ضمن سلسلة “أسياد العشق”، فأوفى بما طلب منه – بمقابل – دون الاشتغال على النصوص بجدّ، بشهادة كتّاب سيرته، فابتدع للماركيز خصالا وشمائل ليست فيه، وصنع بذلك أسطورة ساد الثوري والمتمرد على النظام القائم ونصير النساء ومحرر الجنس… وتلقفها أندري بروطون والسرياليون دون التثبت في صحتها، ثم تبناها كما هي كل الدائرين في فلكهم مثل جورج باطاي وموريس بلانشو رغم أنهما سجلا، كل من جهته، أن ساد في راديكاليته المعادية للمجتمع داس على كل القيم الإنسانية، وميشيل فوكو الذي وصفه في كتاب “تاريخ الجنون” برسول ما سماه “اللاعقل”، وجاك لاكان الذي رأى فيه “صورة للمنحرف إذ يواجه السلطة ويسعى إلى إلغائها دون طائل”، ورولان بارت الذي حاول الفصل بين جسد ساد ورأسه، أي بين انحرافه وفكره، وفيليب سولرز الذي نشر عام 1989 في ذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية كتابا بعنوان “رسالة إلى الكائن الأسمى” يتماهى فيه مع ساد “ذلك المتحرر من كل قيد” كما يقول.
يصف أونفري ذلك كله بالهلوسة الجماعية التي تميز النخبة الباريسية عادة، فالجميع انطلقوا مما كتبه أبولّينير من باب الارتزاق دون بحث أو تمحيص، وساروا عليه، فاعتبروه ثائرا على النظام الملكي، وعلى القتل والرعب في الوقت نفسه، ومفكرا طليعيا، وفيلسوفا مستنيرا حرر العقول وفتح الباب المعرفي أمام مثقفي القرن العشرين.
أونفري لم يلتزم كسابقيه برأي أبولّينير بل عاد إلى الأصل، واستند إلى كتابات المؤرخ ميشليه ويوميات ميشيل لايريس وتأملات ريمون كينو في كتابه “عصيّ وأرقام وحروف” وأعمال أدورنو وهركايمر في “جدلية العقل” وكامو في “الإنسان الثائر” وحتى آنّا أرنت في “أصول التوتاليتارية”، لتفكيك أسطورة ساد وتحطيم الهالة التي ضربت حوله، داحضا كل ميزة كانت سببا في ذيوع صيته، بدءا بأسلوبه وأدبه وفلسفته، وانتهاء بمواقفه الثورية المزيفة ودفاعه المزعوم عن حرية المرأة ودعوته الكاذبة إلى إلغاء عقوبة الإعدام.
كولاج أفكار
من حيث الأسلوب، يقول أونفري: “قياسا بسخرية فولتير، وباروكية سان سيمون، وفاعلية هلفيسيوس ورومانسية روسو وصفاء لاميتري ودقة ديدرو، لا يبدو أسلوب ساد الشبيه بأسلوب موثق العقود جديرا باهتمام مخصوص”. أما الأدب فلا يشكل بالنسبة إليه مطهرا نفسيا (catharsis) حسب الطرح الفرويدي المعروف، وحسبنا أن نقرأ سيره الذاتية – وهي في الغالب سيرٌ معظّمة كسير القديسين – لندرك أنه كان يكتب مشاهد جنس وتعذيب يبتكرها عقله المريض ثم يعمد إلى تطبيقها على غيره. ويرصد أونفري قائمة مرعبة في أكثر من صفحتين لعمليات التعذيب الواردة بكتاب ساد “مئة وعشرون يوما من سدوم”، من نوع ” جيء بأديلاييد، ومُرر على فخذيها من أمامٍ رفشٌ محمرّ، كُوي بظرها، ثُقِب لسانها، جُلدت رقبتها، قُطعت حلمتاها، بُتر ما تبقى من أصابعها، نُتف شعر عانتها، قُلعت لها ستّ أسنان وكمشة من الشعر”. وبعد هذا تجد من يزعم مثل لاكان وبارت وفوكو أن ذلك احتفاء بالحرية.
أما فلسفته، فيصفها أونفري بعملية “كولاّج” لأفكار فلاسفة ماديين، تتبدى في شكل “لازاني”، يتواتر فيها البورنوغرافي والأيديولوجي تواتر طبقات تلك الأكلة الإيطالية الشعبية، طبقة إباحية تعقبها طبقة فلسفية (دون معقّفات ولا ذكر للمصادر لأن حقوق التأليف لم تقنّن بعد) هي جملة مقولات لديرو وهولباخ وهلفيسيوس ولاميتري وآخرين، ليصوغ منها فكرته القائلة بهيمنة الطبيعة على كل شيء، دون اعتبار للخير والشرّ، بما يعني نفيه حريةَ الاختيار، ولكنه يؤكد العكس حينما يزعم أننا يمكن أن نعترض على الطبيعة بواسطة التربية، ثم يرفض تلك التربية ليترك المجال لقوة الشر. ويمكن أن نلخص هذه “الفلسفة” المتناقضة بأن ساد يؤكد أن بالإمكان تجنب الشر، ولكن ينبغي أن نسعى إليه!
كذبة أميركية
وأما ثوريته فهي الكذبة الكبرى التي رسّخها الأميركي مان راي (1890- 1976) في بورتريه لوجه ساد ملتحما بحجارة الباستيل ناظرا إلى القلعة الشهيرة تحترق
تلك اللوحة التي أشاد بها بول إلوار والسرياليون كافة كرمز لثورية ساد، إضافة إلى مقالته الحماسية “أيها الفرنسيون، مزيدا من الجهد إن أردتم أن تكونوا جمهوريين !”، لم تمنع المؤرخ ميشليه – الذي كان له اتصال مباشر بمن عرف ساد – من الطعن فيها، لأن الرجل في رأيه مخادع بارع، استطاع أن يوهم البعض بأنه من “اليعاقبة” فيما هو “أرستقراطي” يكره المزارعين ويعتبرهم “بؤساء ينبغي جلدهم”، ويحنّ إلى عهد الإقطاع أو ما يسميه “الفردوس الإقطاعي”.
وهو ما يؤكده موريس لوفير: “هو أبعد من أن يكون رجل 1793، أو حتى رجل 1789، فهو من نبلاء النظام القديم، ونظرته الطبقية ليس لها حدود”. ثم كيف لهذا الرجل أن يكون ثوريا، يتساءل أونفري، وهو الذي ظل منتميا إلى مجمع أصدقاء الدستور الملكي لغاية 1891، وصرّح في العام نفسه، في رسالة وجهها إلى محاميه غوفريدي، أنه يكره اليعاقبة ويمجد الملك، ويريد أن تستعيد النبالة ألقها ويكون الملك قائد الأمة، وأنه لا يرغب إطلاقا في برلمان. ويذكّر أونفري بأن هذا الثوري المزعوم كان عرض خدماته على الحرس التأسيسي للملك، وانتدب على رأس فرقة الرماح، قبل أن يتفطن روبسبيير لنفاقه وخطابه المزدوج، ويلقي به في السجن، ولم يسرّح إلا بعد مقتل روبسبيير.
كاره المرأة
كذلك الادعاء بأن ساد ثار على عقوبة الإعدام، والحال أن موقفه ذاك لم يصدر عنه إلا يوم كان حبيس سجن بيكبوس يشاهد من خلف القضبان إعدام المئات تحت المقصلة (1800 في 35 يوما) كما أنه لم يستح في النص نفسه الذي دعا فيه إلى إلغاء عقوبة الإعدام، أن يعرب عن ابتهاجه بقطع رقبة لويس السادس عشر، ثم ماري أنطوانيت، ثم شارلوت كورداي التي اغتالت صديقه مارات. ويثني على تصويت لوبلتييه دو سان فارجو لإعدام الملك.
أما عن موقف ساد من المرأة، فهو يرى فيها الأم التي تنجب، أي تلك التي تمنح الشر فرصة الكينونة والديمومة. ومن ثَمّة كان يكره الطبيعة مثلما يكره المرأة التي هي، بما لها من طاقة على وهب الحياة، رمز الطبيعة بامتياز. فالنساء في نظره مجرد أشياء كسائر الأشياء التي ليست له، يمكن أن يتمتع بهن ولكن في إطار الأذى الذي يلحقه بهن.
والخلاصة التي ينتهي إليها أونفري أن ساد جمع إلى العنف الإجرامي واستعباد الضعاف من الجنسين استهانة بالقيم الإنسانية وتمجيدا للقسوة والفظاعة، فقد خيّر على منهج الأنوار سبيلَ الظلام والمتعة المشفوعة بالشر. وفي كتابه “مئة وعشرون يوما من سدوم”، الذي يحتفي متحف أورسي بلفيفة مخطوطه المقدرة بسبعة ملايين يورو، ما يناهز ستمئة جريمة فظيعة لا تصدر إلا عن نفس مريضة، وهو ما قاده في النهاية إلى مستشفى الأمراض العقلية بشارنتون جنوبي باريس حيث قضى نحبه عام 1814.
_________
العرب