سن ضبع وقلب أفعى


*لينا هويان الحسن

يقولون لك: اكتب وأنت ممسوس بالموضوع.. وبسرعة خاطفة اخنقها: آلامك كعصفور أمسكته أخيراً. ودفعة واحدة، فرّغ كامل رصاصك في ذاكرتك وقد أمسكتها بلحظة ضعف، مثل فرس انكسرت ساقها، عاجلها برصاصة الرحمة، التقط الزائل قبل أن يغشّك النسيان.

ومثل الفراعنة حين يموتون، حضرّ لموتك، أثثّ ضريحك بأثمن أشيائك، ثم أوصده بألف باب وباب. بلحـظة واحدة أترك الماضــي يمرّ كشريــط سينـمائــي، عندهــا كن ناســخاً، ووراقاً، وسجل، سجل حتى تشـفى، وجِد الأدب ليغـتال النسيان.
النسيان والذاكرة، لكل منهما بشرة محفورة بأظافر الآخر، صنوان خبيثان يستقر أحدهما في قلب الآخر.
ذات زمن مضى أطعمتني جدتي قلب الأفعى مشوياً، لأكون قوية، وعلّقت خيطاً بعنقي يحمل سن ضبع، لأجل مذاكرتي. أمي كانت تشتكي من علاماتي الرديئة في المدرسة، تحديداً في مادة الرياضيات، وكلما بررتُ لها أني دائماً أنسى جدول الضرب، أحالت قضيتي لجدتي التي وجدت الحل في ناب الضبع، لأن كل البدو يؤمنون أن له مفعولاً عجيباً في حماية الذاكرة..
ومنذ ذلك اليوم لم أحفظ جدول الضرب قط، لكني أتذكر كل شيء.
تضج ذاكرتي إلى حد معه تحول ناب الضبع إلى فك يقضم حاضري ليحافظ على صحة ماضيي، فأكتب.
دائماً نكتب كمن يحلّق مهاجراً هارباً أو مرغماً.. أو لأنه مولع بالرحيل.. بالضياع في ثنايا الذاكرة وطيات الماضي.. تجريب متعة الانفلات من أصابع الريح.. كذلك من طباع السرب حين المناخ يلعب دوره في الخيارات.
وهنا يغدو السؤال الشرعي: كيف نعيد تكرير الذاكرة وصوغها بهيئة الأدب، كل كاتب يعلم سلفاً أن الماضي، من دون أدنى شك، سيضع ختمه على كل صفحة يكتبها.
والسؤال المحرج بحق هو ذاك الذي يسأله كل كاتب لنفسه حالما يبدأ بالشروع بكتابة نص جديد، رواية قادمة مثلا. لا بد سيسمع عبارة جورج ستانتيانا القائلة: «هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته».
أو ربما ما قاله يوما جورج أورويل: «من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي».
وستتربص بنا كلمة نيلسون مانديلا بهذا الشأن: «التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل».
أنا شخصياً يؤرقني ما قاله يوماً محمود درويش: «لا بأس في أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا، ولكن الشقاء الكامل في أن يكون حاضرُنا أفضل من غدنا، يا لهاويتنا كم هي واسعة؟» صدقت محمود درويش الغائب الحاضر.
______
*السفير

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *