إنهم يفضلوهن شقراوات


*آية الأتاسي

في تجمع نسائي شرق أوسطي، لفت نظري أن غالبية الحاضرات كن شقراوات، القليلات فقط بالطبيعة ولكن الغالبية العظمى بالصباغة والتلوين، هذا الأمر في شرق اشتهر وتغنى شعراؤه ومطربوه بالسمار والعيون الكحيلة.

تساءلت هل هذه محاولة لطمس الهوية الشرق أوسطية ورغبة بالتشبه بالأوروبي والثقافة المهيمنة عالمياً، أم أن الانسان في النهاية ضحية للإعلام الذي يفضل الشقراوات على شاكلة الممثلة الفاتنة مارلين مونرو، التي سحرت القلوب وكانت نموذجاً للجمال الهوليوودي في فترة الخمسينات، رغم أنها لم تكن شقراء بالولادة ولكنها ماتت ضحية تلك الصورة التي رسمتها لها السينما كشقراء مثيرة، بجسد حاضر بقوة وروح وعقل مغيبين، وهذا ما دفعها ربما في النهاية إلى قتل هذا الجسد والموت انتحاراً.
إنه نموذج «المرأة الدمية»، الذي تمردت عليه مونرو في النهاية، نموذج «امرأة الحلم الهوليوودي» الذي يختصر المرأة بجسد انثوي ممتلئ وبشرة بيضاء وشعر أشقر، امرأة تكون في الغالب ساذجة وبسيطة، ورغم استمرار حضور هذا النموذج في السينما، كما في مخيلة بعض الذكوريين، إلا أن هذا لم يمنع من ظهور جمال اكزوتيكي آخر، فقد أصبحنا نجد مقدمات البرامج الآسيويات والمغنيات الأفريقيات والممثلات اللاتينيات يقتحمن الشاشات الصغيرة والكبيرة ويفرضن وجودهن بكفاءتهن وذكائهن أولاً وجمالهن الفريد ثانياً، وكأن الإعلام الغربي يصنع قوالبه الجاهزة، من دون أن يمنعه هذا من الاستمتاع في تكسيرها لاحقاً.
أما في ما يخص الذائقة البشرية، فهي أشد تعقيداً من اختصارها بلون وصورة واحدة، ويمكن تشبيه النساء بحديقة أزهار ملونة، للياسمين كما البنفسج والورد مكانهم فيها، ومن الصعب مقارنة زهرة بأخرى، قد نفضل نوعاً على آخر، ولكن جمال الحديقة وسحرها يكمن في تنوع أزهارها وألوانها، وعلى الرغم من بديهية هذه المقولة، إلا أننا ما زلنا في الشرق نميل إلى اختصار الجمال بالبشرة البيضاء والشعر الأشقر، كنوع من عنصرية الضعيف على الأضعف منه، أو كمن يهرب من وجهه ويرغب في قلب المرآة إلى الجهة الأخرى.
فليس غريباً أن تحلم مثلاً امرأة شديدة السمار بعروس شقراء لابنها، ويحضرني هنا حادثة طريفة حدثت مع صبية سمراء جميلة رفضتها حماتها لسمارها فقط، فقد كانت تحلم لبكرها بعروس بيضاء إلى الدرجة التي يقال فيها «لشدة بياضها نرى المياه وهي تجري شفافة في حلقها»، وفي هذا السياق أيضاً قدم مسلسل «مرايا» السوري في إحدى المرات لوحة فكاهية، عن شاب يحلم بالزواج من فتاة شقراء، ويكتشف في شهر العسل أن الشعر الأشقر مستعار والعيون الزرقاء عدسات ملونة والأنف معدل بعملية تجميلية واللون مفتح بمساحيق التبييض… ولتنتهي اللوحة بسؤال بسيط عما إذا كان العريس حقاً ضحية لعملية احتيال من قبل العروس، أم هو ضحية لتفكير خاطئ يختصر الزوجة بالوجه الحسن، ويختصر الوجه الحسن بالبشرة البيضاء والعيون الملونة والشعر الأشقر. 
فكيف يمكن لعلاقة عميقة كالزواج، التي هي علاقة حب وتفاهم، صداقة وود ومعاشرة، أن تختصر بمجرد شكل جميل وعلاقة جسدية! وهل نقول جديداً إن اعتبرنا أن الجمال ككل شيء في الحياة نعتاده، وعندما تنهار قشرته الذهبية، لا يبقى إلا الجوهر وهو جمال الروح، أما الذهب فهو المعرفة التي تجعل العقل دوماً في حالة توهج وشباب.
المرأة الشقراء في الغرب
لأن نسبة الشقار أعلى في البلاد الشمالية من بلادنا، فهم أقل هوساً منا به، إضافة إلى أن المظهر الخارجي لا يلعب إلا دوراً ثانوياً في الحياة العاطفية والمهنية هناك، وليس نادراً أن تعمل فتاة شقراء جميلة في أعمال بائسة، كالتنظيف أو الخدمة كنادلة، لكسب قوت يومها. بينما يتم في كثير من الأحيان تحويل المرأة الشقراء في مجتمعاتنا إلى فتاة مدللة بتاج ذهبي، تظن خاطئة أن شكلها قد يغنيها عن السعي وراء العلم والعمل، ولتكتشف مع التقدم بالعمر زوال السحر، وتحول التاج الذهبي إلى تنك رخيص.
ورغم هذا لا يعتبر الغرب معافى تماماً من متلازمة «المرأة الشقراء»، فهي مازالت تحتل فيه عرش الإثارة والأنوثة، وغالباً ما تظهر المرأة في الإعلانات التجارية شقراء وبجسد مثير، بينما يظهر الرجل بشعر أسود وجسد رياضي قوي، وهما معاً يشكلان الثنائي المثالي في الإعلانات التلفزيونية والملصقات الدعائية، كما في رسومات قصص الأطفال الخرافية وفوق كعكات العرس البيضاء. بالإضافة إلى الأيقونات الدينية التي تصور العذراء والسيد المسيح، كما الملائكة، بشعر أشقر، رغم أن المسيح وأمه مريم ابنا شرقنا الأوسط، بلاد الشمس والبشرة السمراء.
حاول الغرب تفسير «ظاهرة المرأة الشقراء» علمياً، وتوصلت بعض الدراسات إلى أن اللون الأشقر مرتبط في أذهاننا بالطفولة والنقاء، فالأطفال يولدون ببشرة فاتحة، لا تلبث أن تغمق ويزداد الشعر اسوداداً مع التقدم بالعمر. ولربما يعود السبب في انجذاب الرجل للمرأة الشقراء إلى حاجته الغريزية في إظهار قوته وقدرته على منح الحماية للمرأة، «الطفلة « في هذه الحالة، وهذا يفسر أيضاً السبب وراء نعت المرأة الشقراء بالسذاجة أو بالبراءة التي ترتبط عادة بالأطفال. 
وهناك بعض الدراسات التي تذهب أبعد من هذا في علاقة لون الشعر بطبيعة البشر وسلوكهم، فقد قدم الباحث في علم النفس جيروم كاغن نظريته عن تأثير لون الشعر على نشاط الإنسان وحيوته، وقد استند في برهانه إلى أن جينات معينة في الإنسان تتحكم بإنتاج مادة الشعر الصبغية «الميلانين»، كما تتحكم بهرمون النشاط في الجسم «الكورتيزون».
وينسب كاغن لتلك الجنيات المسؤولية عن أن ذوي الشعر الغامق أكثر انفعالاً وحيوية من ذوي الشعر الفاتح، الذين يميلون أكثر إلى البرودة والخجل. ولكن تبقى هذه النظرية موضع شك لأنه لا يمكننا إغفال عوامل أخرى كثيرة تحدد طباع البشر وسلوكهم مثل المحيط والتربية والظروف المعيشية، هذا بالإضافة إلى الشمس وتأثير حرارتها على مزاج سكان القارة السوداء مثلاً بالقدر نفسه الذي يؤثر غيابها على مزاج أبناء البلدان الاسكندنافية من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر. ولكن يبقى الغرب رغم كل ما ذكر، أوسع ادراكا منا، وأكثر انفتاحاً وتنوعاً في تعريف الجمال والجاذبية الإنسانية.
المرأة الشقراء في شرقنا:
المرأة الشقراء عند الأغلبية في الشرق هي الأجمل، أولاً لندرتها وثانياً لأنها تشبه الآخر الأوروبي المتفوق حضارياً. حتى أن نعت شخص ما بالسمار، تعتبر في حالات معينة انتقاصاً ومذمة، ونوعاً من التصنيف الدوني له. كما حدث مؤخراً في جريدة لبنانية ألصقت بالسوريين صفة «أصحاب البشرة السمراء» على سبيل الشتيمة والازدراء. وأحياناً كثيرة يكون المديح مغلفاً بالشتيمة فما أكثر ما يقال: «مع أنها سمراء ولكنها جذابة»، أو عبارات من قبيل: «عندها مقومات الجمال ولكنها ليست جميلة»، وطبعاً المقصود بمقومات الجمال الشعر الأشقر والبشرة البيضاء.
هذه أمثلة لعبارات كثيرة متداولة، فما أسخف أن نختصر الجمال بشكل ولون واحد، وكم هو مملل ألا يكون للإنسان لون وشكل يعكسان هويته الشخصية وذوقه الخاص، اليوم أصبحنا في بلادنا الشرقية نعيش في مجتمع صارت النساء فيه بلون وسحنة واحدة، ولا مكان للاختلاف أو التميز، شكل من أشكال ثقافة القطيع لا في السياسة وحدها بل بالذائقة المجتمعية أيضاً.
في كتاب الأطفال «البنت الشقراء»، للكاتب سماح أدريس، طفل يريد أن يشتري فتاة شقراء بعينين زرقاوين، يراها في محل للألعاب، وبعد محاولة يائسة للأم لإقناعه بأنها بنت من لحم ودم وليست لعبة للشراء، يجيبها الطفل ببساطة:
أنت قلت لي «إن شاء الله تأخذ بنت شقراء بعينين زرقاوين»!
ختاماً… ولأنني أم لابنة شقراء، وأتمنى أن لا تصبح ابنتي في يوم من الأيام دمية تشتهى وتشترى في مجتمعاتنا الشرقية، ولأنني أتمنى أن لا يحولها المجتمع إلى مجرد فتاة جميلة بشعر ذهبي، فالفتاة الدمية لا تولد هكذا بل يصنعها المحيط والثقافة والميديا…
لابنتي الشقراء، ولكل شقراء تكسر قالب الدمية المعد لها مسبقاً، أهدي مقالتي هذه.
_________
كاتبة سورية/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *