*محمد بنيس
(1)
عاشت فرنسا في الأسبوع الماضي مأساة هزت العالم. إرهابيان اقتحما، باسم الإسلام، مقر المجلة الساخرة، شارلي إيبدو، وسط باريس، وقتلا إثني عشر شخصاً خلال اجتماع هيئة التحرير. وفي اليوم الموالي قام إرهابي آخر بصرع ضحية، ثم انتقل إلى احتجاز وقتل رهائن ليلة السبت في متجر يهودي. ثلاثة أيام من الدم المسفوح، باسم الإسلام، وباسم الانتقام للإسلام ولفلسطين. أيام من أيام القيامة في عاصمة الحرية، حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير. ولم يكن لي كغيري سوى أن أشاهد هذا الذي يحدث. أشاهد وأتابع الصور والتعليقات والمراسلات الصحفية. من قناة تليفزيونية إلى أخرى. ومن صحفية إلى أخرى. يوم قيامة بدون إنذار، يرتفع فيه السيف ليقطع دابر الكفرة كما يقولون.
الإرهابيون الثلاثة من أبناء فرنسا. ليس للعالم العربي ولا الإسلامي دخل لا في تربيتهم ولا في تكوينهم الديني أو الاجتماعي. إنهم مختلفون، من هذه الناحية، عن الأصوليين الذين هاجموا برجي التجارة العالمية في 11 سبتمبر، أو عن الأصوليين الذين أصبحوا يرفعون سيفهم في بلاد عربية وإسلامية، منذ الثمانينيات من القرن العشرين. شبان فرنسيون، يكشفون عن وجههم المتعدد. فهم مجاهدون، قائمون على الإفتاء وتطبيق الحد. من تلقاء أنفسهم يرفعون الستائر ويصعدون على الخشبة ليسفكوا الدماء. ونحن نشاهد المأساة تلو المأساة، في بلدان غربية. نتتـبع ونتألم. وها هو الإرهاب يوقع، باسم الإسلام، ضحايا من بين أبناء الغرب كما يوقع ضحايا من بيننا.
(2)قد نقول إن هذا الذي يحدث بعيدٌ عنا، ولا يمسنا. فهؤلاء القتلة، ينتسبون إلى مجتمعهم الأوروبي. لكن هناك ما لا يقبل التأجيل. وهو أن كل مسلم تلقى تربية حضارية لابد أن يدين هذه الجرائم وهؤلاء هم الأصوليون. فالإدانة موقف يجب أن يتوحد فيه المسلمون. بدون تأخير. ومن الواجب، في هذه الحالة، أن يتحرك المجتمع بمؤسساته للتعبير عن إدانته الجماعية. وله أن يختار الصيغة الملائمة للتعبير عن هذه الإدانة، التي لها أن تنبع من أعماق كل واحد منا، بالصفاء المطلوب، بيننا وبين أنفسنا.
(3)هؤلاء الأصوليون يحملون السيف في وجه حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير. السيف والحرية. حدّان متعارضان، متصارعان. وقد عشنا منذ قرون حالات المواجهة بينهما، كما نحن نعيشها في عصرنا الحديث. أدباء ومفكرون وكتاب وصحفيون، جميعهم يعانون هذه المأساة. وهي اليوم تزداد حدة في جميع البلاد العربية، ولو بدرجات متفاوتة. مع ذلك لا فائدة في الخلط بين وضعية الأصوليين، من الجهاديين إلى القاعديين إلى الدواعش، وبين الأصوليين الإسلاميين في الغرب.
التمييز بين الوضعيتين يفيد أن تأمل ما يحدث منذ ثلاثين سنة باسم الإسلام، لا يمكن أن يستند إلى المقاربة الواحدة. فالإسلام في الغرب، له تاريخ مختلف عن تاريخ الإسلام في العالم العربي. بل إن وجود المسلمين قديماً في الغرب يختلف كلية عن وجودهم فيه اليوم. مسلمو اليوم في الغرب، فئات تعمل فيه وتتعلم وتعيش. وهي جزءٌ من نسيجه الاجتماعي. منهم من وصل إلى مراتب عليا في الحياة العملية. هؤلاء المسلمون فهموا أن الأرض التي استقبلتهم ليست هي أرض الكفار، كما في الماضي. هي أرض يحصلون فيها على أرفع المعارف والخبرات، ولهم فيها من الحقوق ما لن يدركوه في أوطانهم الأولى. لذلك يبحثون عن صيغ الاندماج في المجتمع الغربي، دون أن ينسلخوا عن معتقدهم أو عن تقاليدهم الاجتماعية.
(4)وهناك في المقابل قيم يقوم عليها المجتمع الغربي، في مقدمتها الحرية. وقد كانت ثورة 1789 في فرنسا الحركة السياسية التي فرضت الحرية والمساواة والأخوة، كمبادئ لا يمكن التنازل عنها. الحرية موضوع فلسفي وقانوني وسياسي في آن. وهي، في الغرب، أو في فرنسا، ذات هالة تحيط بالجمهورية. واستطاع المجتمع مواصلة كفاحه من أجل توسيع معنى الحرية وفضائها الحيوي. من ذلك حرية الصحافة في التعبير بالكلمة والرسم، أو المعارك الأخيرة التي خاضتها فئات مختلفة، دفاعاً عن فضائها الخاص الذي تريد له أن يصبح فضاء معترفاً به ومحمياً بقوة القانون.
لا وجود للغرب بدون هذه الحرية. وهو شيء لا نفهمه في العالم العربي، لا نفهم معنى أن ينتقد صحفي أو كاتب أي شخص أو جهة أو فكرة. فولتير من أقوى الواضعين لأساس معنى الحرية في الغرب، من خلال قولته الشهيرة « قد أختلف معك في الرأي، لكنني مستعد للتضحية بحياتي من أجل حريتك في التعبير عن رأيك». قولة تحولت إلى مُسلّمة من مُسلّمات ممارسة الحرية في الغرب. لا أحد يجرؤ نظرياً على المساس بحرية الرأي. وهي مؤطرة بقوانين تحمي الشخص (أو المؤسسة) التي تعبر عن رأيها والشخص (أو المؤسسة) التي يقصدها الرأي. لذلك فإن كل من يجد في التعبير عن الرأي شيئاً يمسه ويتعارض مع القوانين المؤطرة لحدود الحرية يتوجه إلى القضاء، الذي هو وحده المخول له حماية الفرد والجماعة من أي شطط في استعمال الحرية. لا عنف ولا سيف.
(5)قد يبدو كل هذه الكلام عبثاً. فمأساة الأسبوع الماضي، التي ذهب ضحيتها صحفيون ومواطنون، لا تترك لنا فرصة للكلام، أو، ربما، لترف الكلام. السيف الذي يقف في وجه الحرية هو سيف جاء من العالم العربي، رغم أن حامليه ومستعمليه فرنسيون. قليل هذا الذي أقول. مع ذلك فإن مسلمي الغرب، الذين نجحوا في تعلمهم وعملهم، أصبحوا أكثر دراية بالطريقة التي يسيّرون بها حياتهم اليومية ويتقاسمون العيش مع مجتمع متعدد الأجناس. فنحن نلاحظ أن مسلمي إنجلترا لم يكونوا مصدر الفتوى ضد سلمان رشدي، ولا مسلمي أمريكا منفذي هجمة 11 سبتمبر. كما أنهم لا يمنعون أحداً من التعبير عن رأيه. قبل مدة قصيرة أصدر الصحفي الفرنسي إريك زمور كتاب «الحزن الفرنسي»، كما أصدر ميشيل ويلبيك رواية «الخضوع»، التي تتخيل وصول المسلمين إلى الحكم في فرنسا. وقد عبّر عرب ومسلمون عن رأيهم في الكتابين، كما يعبرون عن رأيهم في اليمين المتطرف، بأسلوب يحترم مبدأ حرية التعبير، لكنهم يعتمدون لغة قانونية ووعياً ثقافياً عند التصريح برفض أو استنكار ما يرون فيه ظلماً وعدم اعتراف ونكراناً للجميل.
(6)تتبعت ندوات وحوارات في قنوات، كما قرأت مقالات في صحف فرنسية. ويوم الأحد الأخير 11 يناير، ظللت مشدوداً إلى مسيرة الوحدة الوطنية، التي تجمّع فيها الفرنسيون من أجل الجمهورية ومبادئها. ما يعنينا، الآن، هي التعليقات والآراء والتحاليل، التي لم يتوقف أصحابها عن البوح بما يحاولون به فهْمَ ما جرى. ثمة سؤالان تردّدا كثيراً، أولهما : كيف أمكن لفرنسيين أن يتحولوا إلى إرهابيين فيما هم من أبناء المجتمع الفرنسي ومن نتائج تربيـته ؟ والثاني هو : كيف يمكن القضاء على الإرهاب الذي ضرب فرنسا ويتهددها في المستقبل ؟ سؤالان تمت صياغتهما، أيضاً، بعبارة تأكيدية هي «ما قبل حدث شارلي إيبدو وما بعده».
هيمنت المقاربة الأمنية على الجواب عن السؤال الثاني. لكن هناك من لا يقف عند هذه العتبة الآنية. كتاب وفلاسفة، بل وسياسيون، يطرحون أبعاداً اجتماعية ودينية أو/ واختيارات سياسية. وما يجمع بين هذه التحليلات عامة هو التحذير من الخلط بين الإرهابيين والمسلمين. فالكلمة التوجيهية هي أن الإسلام في فرنسا إسلام فرنسي لا طائفي، يحترم قانون الجمهورية، وهو جزء من الجمهورية. هذا القول يحدّ من الخوف الذي يسود الأوساط الإسلامية في فرنسا ويهدد حياتها ومستقبلها في مجتمع يعيـش أزمة اقتصادية متفاقمة، ويستولى عليه خطاب اليمين الفرنسي المتطرف، الرافض لبقاء الأجنبي، العربي، المسلم، على الأرض الفرنسية.
(7)تلقائياً أجهر مندداً بالإجرام الذي استهدف به الإرهابيون أشخاصاً أبرياء: صحفيين وفنانين وأعواناً، من بينهم مسلمان من أصل مغاربي، هما المدقق اللغوي مصطفى وراد، والشرطي أحمد مرابط. والتنديد وحده لا يكفي. أقصد أن المقاربات الموضوعة للنقاش لا تأخذ بالاعتبار البعد الثقافي للإسلام. في التسعينيات، كنت أحد العرب المشاركين في مهرجان بمدينة بواتيي (مدينة شارل مارتل)، وقد فوجئت عندها بمعرض أقامه منظمو المهرجان للكتاب المدرسي، الذي كان مقرراً منذ بداية القرن العشرين. حمل المعرض عنوان «جدار العار»، حيث يبرز كيف أن هذا الكتاب يربّي التلميذ الفرنسي، من ناحية، على صورة تحقيرية للعرب والمسلمين، كما يفرض على التلميذ من أصول عربية وإسلامية، صورة تحتقر تاريخه ومجتمعه. وعندما تسنّى لي أن أجتمع بالوزير الأول الفرنسي السابق ليونيل جوسبان، تبادلت وإياه الرأي في موضوع المتخيل السلبي، الذي يسود في المجتمع الفرنسي تجاه العرب والمسلمين. وافقني على ذلك بكل أريحية، وأخبرني أن ثمة مراجعة تتم للكتاب.
ملاحظة تعني أن المدرسة هي الباب المفتوح على العربي والمسلم، وأن سؤال الثقافة، من خلال الأدب والفنون، أبعد مما نرى، بالنسبة للجانبين، من أجل علاقة قائمة على الاعتراف والثقة المتبادلين. لأن سبب ما يحدث ليس وليد اليوم، ولا محصوراً في الإسلاميين. الاختيار الممكن هو التفكير في مقاربة تنتقل من رؤية الإسلام كعقيدة دينية مجردة إلى رؤية تضع الدين الإسلامي ضمن ثقافته العربية والإسلامية وتفاعلاتها مع الثقافة الغربية، منذ عصر النهضة، في مركز حوار اجتماعي ـ حضاري، من أجل أن يكون ما بعد هذه المأساة لا يشبه ما سبقها.
_____
*الاتحاد