حب منتصف العمر كما تسرده المغربية فاتحة مرشيد


*هاشم شفيق

الحب في كل مشتقاته الجمالية، خير مدخل لعمل أدبي وفني، وهو مادة مغرية لأي مبدع وفنان يسعى لكي ينتج نصاً فنياً له كل مقوماته الإسلوبية، التعبيرية والفنية التي ترتفع به الى مصاف النص الناجح والخالي من ثرثرة الإيروتيكي، الذي لطالما كانت تتقدم به الكاتبة العربية من أجل لفت الأنظار ورمي الحجر الرغبوي في بركة الجنس لحث المشاعر على متابعة الجاري في النص.

رواية «الحق في الرحيل»، للشاعرة والكاتبة المغربية فاتحة مرشيد، وهي الثانية لها، ترمي حجر الكتابة الصادقة في بحيرة الكلمات للفت نظر القارئ العربي الى صوتها الأنثوي الذي تابعها في مدارها الشعري، مطالبة إياه هذه المرة بمتابعة ما تبدع وتجترح في أفق السرديات من معان إضافية تنضاف لتجربتها الإبداعية في الكتابة.
تحت سماء من الشوق والعشق والغرام الصافي تكتب فاتحة مرشيد روايتها الحبيّة، عن علاقة تمت بين شخصين هما في منتصف عمرهما، لكن هذا لا يمنع العاشقين من أن يجددا الحياة ويدشناها من جديد تحت أفق مشترك وكأنهما شابان ما زالا في خطواتهما الأولى.
الإطار العام للرواية يتكوّن من شخصيتين رئيسيتين هما إسلان الطباخة، أو الشيف إسلان، وفؤاد وهو صحافي وكاتب شبح للروائيين والكتاب والمؤلفين الذين يصادفهم خلال عمله وحياته المهنية لتلبية ما يطلبه أحدهم لكتابة سردية ذات طابع روائي، أو مذكرات ومدوّنات شخصية في مقابل مبلغ من المال، هذا الكاتب الشبح أو فؤاد كما تقدمه الرواية التي تخاطبنا بصيغة الغائب تارة وبصيغة المتكلم تارة اخرى، وفق ما يتطلبه الموقف الفني من اجتراح صيغ فنية للتعبير. الكاتب الشبح هذا يأتي الى لندن بدعوة من الصحيفة التي يعمل فيها مراسلاً، الحظ الجميل الذي غاب عنه طويلاً، سيبتسم له في حفلة نهاية السنة. الجو الضبابي في لندن يبدو هو المهيمن في تلك اللحظات الأولى من الحب، أي في تلك السهرة التي دعا اليها رئيس تحرير صحيفة عربية. السهرة كانت في أحد الفنادق اللندنية. كانت إسلان من ضمن المدعوين لكونها المشرفة الأساسية على الحفلة ومصمم جلستها وإدارتها من شراب وطعام وغناء، وتفاصيل أخرى لها علاقة بالأتيكيت، وما شابه من مواضعات عامة.
يُعجَب فؤاد الذي أمضى عمره كاتباً غير مشهور، إذ وظيفته تكمن في شهرة الآخرين، يُعجَب في الحفلة، وفي خضم أجوائها الديبلوماسية بإسلان التي تتحدّر من مدينة «تافراوت»، المغربية، بلدة الشاعر محمد خير الدين، كما نوّهت إسلان قبل ذلك في أحد أجوبتها لفؤاد، مستغرقة في الحديث عن جمال المدينة، وعن حبها للشاعر الذي رحل باكراً في باريس، ويعدّه الكثيرون أيقونة الشعر الجميل والمختلف في المغرب. أما اسمها الذي يثير غرابة فؤاد عن معناه فهو اسم أمازيغي يعني العروس. هذه الصفة هي التي سيتشبث بها فؤاد لمطاردة معشوقته الجديدة التي خلبتْ لبّه من خلال طرائق كثيرة …
خلال لقاء إسلان بفؤاد الكاتب الشبح تستطرد أسلان بسرد قصتها له، ومن جهته فؤاد، يستسلم ويُصغي، لقد حفزّتْ حياة إسلان شهيته للكتابة، فالقص هنا يبدو كمسوّغ لمواصلة المشوار مع إسلان العارفة بفن الطبخ والعلاقات أيضاً، فهي تحسن كشهرزاد القص له، وهو الآخر بدوره يُحسن الإنصات وهضم الحكايا لتحويلها الى عمل فني، كما يظهر من طريقة الاستدراج في الكلام حتى الصباح، في منزلها، في المطعم، في المقهى أو في نزهات الهايد بارك، تتكلم عن كل شيء، من دون أن تَصمتّْ عن الكلام المباح، بادئة بأبيها الذي هاجرالى باريس وفتح دكاناً صغيراً هناك، عن جدّتها التي كانت ماهرة في الطبخ، عن أمها التي رفضت الذهاب الى باريس وبقيت في المغرب، وكان والدها يوافيها ثلاث مرات في السنة، عن أخويها اللذين ولدا في غياب الأب، الى أن تتوغل عميقاً في حياتها المترعة بالتفاصيل والأسماء العابرة والمدن الأجنبية التي تمر على نحو سريع أيضاً في الرواية، مثل اليابان، حيث ذهبت الى هناك لدراسة فنّ الفندقة، وحديثها المطوّل عن أستاذها هيروكي الذي منحها حكمته وفنه قائلاً لها: «اذهبي لغزو العالم من خلال حاسة الذوق وتزوّدي فكرياً وحسياً بكل ما هو جميل».
إن علاقتها بأستاذها الياباني ستحرّرها كمغربية، من عقدها البشرية، ومن الغموض الوجودي الذي يلف معنى الحياة، داعماً إياها بالأمثولة الفكرية وبالشذرة الحِكمية.
مفاجأة الموت
بعد تلك التجربة اليابانية، تواجه إسلان صدمة موت أمها وغياب أستاذها الياباني في حادث فيضان، لكن علاقتها بفؤاد ستعوِّض عن هذين الغيابين المفاجئين بالنسبة لها، إذ ستتوطد أكثر وتتعمق على نحو طبيعي، أبرزها حين يفاجئها بتقديم خاتم الخطوبة لها، اثناء نزهتهما اليومية الطويلة على نهر التيمز. يبدو أنها كانت في انتظار لحظة كهذه كي تنتشلها من واقعها المأسوي، غير ان القدر لا يدع هذه اللحظات الجميلة أن تستمر طويلاً، فسرعان ما يسقط والدها في أزمة قلبية تقضي عليه، فتضطر بعدها لأن تذهب الى باريس عند أخيها قاسم الذي كان يقوم بإجراءات الدفن العادية.
رواية «الحق في الرحيل» تمضي ببطء وفي تمهل وكأن الروائية في هذا المقام لا يعنيها عنصر التشويق والمخاتلة، بقدر ما يهمها السرد المتأني الذي يحمل طابعه الكلاسيكي والوضوح في انتقاء الجملة، غير معنية بالتقنيات الجديدة التي مست عمق الرواية الحديثة.
وإذا كنا نسير داخل هذه الأناة برويّة فإن الفصل الثاني سيجرّنا فيه ضمير الغائب الذي يخاطبنا الى فؤاد ليبدأ بسرد أحواله ومقاماته، فهو أيضاً لديه الكثير ليقوله عن والدته التي رحلت باكراً وعن أخيه الطاهر وعن صديقه صلاح الذي يُجله ويُحبّه كثيراً وعن ربيعة أخت صلاح التي ارتبطت بعلاقة مع فؤاد منذ زمن الدراسة والشباب الأول، كانت ربيعة متعلقة كثيراً بأخيها صلاح وبالعكس، هما من سكنة «أزمور» التي تقع بين الدار البيضاء والرباط، أثناء غياب فؤاد في لندن، يذهب صلاح وربيعة لمدة يومين الى الرباط فينزلا في فندق لكي يريها معالم الرباط التي لطالما حَلمتْ بها ربيعة كعاصمة عالمية فيها كل شيء، فهناك وفي إحدى الليالي المشؤومة سيحدث السفاح ويقع المُحرّم بين الأخوين، حينها يهاجر صلاح بعد تلك الفعلة الى أميركا عله ينسى فعلته الشنيعة التي لوثت تاريخه وحطت من قيمته الإنسانية، من شقيق وحام الى وضيع ومدمن مخدرات، هناك سينتهي باكراً في جرعة مخدرات زائدة، ولكي يستر شرف ربيعة صديقة الطفولة، سيتزوجها فؤاد لينقذها من العار فقط، من دون أن يلمسها أو يفكر في الاقتراب منها، وهي حامل بطريقة غير شرعية، تلد ربيعة طفلها الذي كان يحمل إعاقة ذهنية، فتحمد ربها حينذاك لأنها سوف لن تكذب عليه، في تلك الأثناء، تسكن ربيعة عند والدته الوحيدة التي سترى فيها ابنة لها، فيغادر بعدها فؤاد لاستئناف عمله، ليأتيه بعد مضي بعض الوقت خبر زواج ربيعة من ابن عمها الذي سيتقبّل كل ماضيها، منهياً بذلك فصلها المأسوي السابق.
هنا فؤاد حين يستعيد تلك الأجواء، أجواء يوسف الفنان التشكيلي والدكتور رشيد وحميد، يستعيدها ليعود كاتباً هذه المرة روايته هو، أما الأصدقاء الثلاثة المذكورون فلهم حكاياتهم الإيروسية وشغبهم الشبابي والرجولي مع الحياة والنساء والشراب، يعود فيستذكر كل واحد منهم على حدة، محمولاً فوق دفء حكاياتهم وقفشاتهم والمطبات التي يقع فيها كل واحد منهم في تلك الايام الغابرة من الزمن القديم، مُسوِّداً لنا، أي الراوي، صفحات كثيرة، تكشف لنا جمال وطبيعة المغرب وحركة هؤلاء بين مدنهم وشوارعهم وطبيعة الناس فيها مثل مراكش التي ينتمي اليها الدكتور رشيد، الذي سينتهي طبيباً في المغرب ويوسف الى أميركا وحميد الى باريس.
حين تصل العلاقة بين إسلان وفؤاد الى الذروة ويستنفد الراوي والراوية حكاياتهما ويستنفدا ايضاً مكان إقامتهما في ديار الاغتراب يعتزمان الرحيل الى المغرب، وأغادير ستكون مقرّهما الجديد، بعد فتح إسلان مطعم لها هناك ومعاودة فؤاد الكتابة، ولكن لنفـــسه هذه المرة، الى أن ينصب القدر خيمته من جديد لهذه الحياة الرخية والهادئة لتنتهي إسلان بمرض الــسرطان.
عذاب إسلان سيطول والمعاناة ستتزايد فينهيها زوجها فؤاد وحبيبها بيديه لقتل من أحب وعَشِق قتلاً رحيماً.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *