مقاربة فلسفية لمجتمعات المراقبة


*عبد العالي نجاح


( ثقافات )
1/ في الشروط التاريخية:
يرى جيل دولوز أن ميشيل فوكو قد حدد مجتمعات الحراسة(1) في القرن 18 و19؛ وأنها وصلت إلى قمتها في القرن 20. وتعمل هذه المجتمعات على تنظيم الأوساط الكبرى للحراسة. ما فتئ الفرد يمر من وسط مغلق إلى آخر، كل حسب قوانينه: بداية العائلة، ثم المدرسة (“لست داخل عائلتك”)، ثم الثكنة العسكرية (“لست داخل المدرسة”)، ثم المصنع، ومن حين لآخر المستشفى، ومن المحتمل السجن الذي يعد وسط الحراسة بامتياز. ويؤخذ السجن كنموذج تماثلي؛ يمكن لبطلة فيلم “أروبا 51″(2) أن تصرخ حين ترى العمال: “لقد اعتقدت رؤية سجناء..”. لقد حلل ميشيل فوكو جيداً المشروع المثالي لأوساط الحراسة، تحديداً مرئية داخل المصنع: تمركز؛ توزيع في المجال؛ تنظيم في الزمان؛ تجميع في الزمكان قوة إنتاجية حيث المفعول يكون أعلى من مجموع القوى الأولية. لكن ما كان يعرفه فوكو أيضا هو محدودية هذا النموذج: إنه يلي مجتمعات السيادة(3)، حيث كان الهدف والوظائف أشياء أخرى (تحصيل الإنتاج عوض تنظيمه، تحديد الموت عوض تدبير الحياة)؛ تم الانتقال تدريجيا، وقد استشف نابليون التحول الكبير من مجتمع إلى آخر. لكن عرفت الحراسات بدورها أزمة، لفائدة قوى جديدة حلت محلها ببطء، والتي تسارعت وثيرتها بعد الحرب العالمية الثانية: لقد أضحت مجتمعات الحراسة ذلك الذي لم نكن عليه، وذلك الذي لم نصر عليه.
إننا في أزمة معممة لجميع أوساط الحراسة، السجن والمستشفى والمصنع والمدرسة والعائلة. تعد العائلة “داخلا”، في أزمة ككل داخل، مدرسي ومهني، الخ. مافتئ الوزراء الأكفاء الإعلان عن إصلاحات ضرورية مفترضة. إصلاح المدرسة، وإصلاح الصناعة، وإصلاح المستشفى والجيش والسجن؛ لكن يعرف كل واحد أن هذه المؤسسات قد انتهت، على المدى القريب أو البعيد. يتعلق الأمر فقط بتدبير احتضارها، وإشغال الناس إلى حين إحلال القوى الجديدة التي تدق الأبواب. إنها مجتمعات المراقبة(4) التي أخذت تعوض مجتمعات الحراسة. “مراقبة”، إنه الاسم الذي اقترحه ويليام بوروز(5) للتعبير عن الوحش الجديد، والذي يعتبره ميشيل فوكو مستقبلنا القريب. ومافتئ بول فريليو(6) أيضا تحليل الأشكال الجد سريعة للمراقبة في عصر الحرية، والتي تعوض الحراسات القديمة المشتغلة في زمن نظام مغلق. لا يتعلق الأمر باستحضار المنتجات الصيدلية الاستثنائية والتشكيلات النووية والتحويلات الجينية، رغم أنها موجهة للتدخل في الصيرورة الجديدة. ولا يتعلق الأمر بالتساؤل حول النظام الأكثر قسوة، أو الأكثر تسامحا، لأنه بداخل كل واحد من هذه الأنظمة تتعارض الإنعتاقات والإكراهات. في أزمة المستشفى مثلا كوسط للحراسة، شكل اللاتمركز ومستشفيات النهار والتمريض المنزلي بداية حريات جديدة، لكنها تساهم أيضا في آليات المراقبة التي تنافس بواسطة الحراسات الأكثر قسوة. كما لا يتعلق الأمر بالخوف أو التمني، ولكن بالبحث عن أسلحة جديدة.
2/ في الأسس المنطقية:
تعد مختلف الداخليات أو أوساط الحراسة التي يمر منها الفرد متغيرات مستقلة: يتطلب ذلك إعادة البداية من الصفر كل مرة، وأن الكلام المشترك لهذه الأوساط موجود، لكنه تماثلي. بينما تشكل مختلف المراقبات تقاطعات متلازمة، مشكلة نظاما بهندسة متغيرة حيث الكلام رقمي (والذي لا يعني بالضرورة ثنائي). الحراسات قوالب، نماذج مختلفة، أما المراقبات فهي تموج، كنموذج تحويلي الذي يتغير باستمرار، من لحظة إلى أخرى. نلاحظ ذلك جيدا في مسألة الرواتب، حيث يعد المصنع الجسم الذي يحمل قواه الداخلية إلى نقطة توازن، الجد أقصى ممكن بالنسبة للإنتاج، والجد أدنى بالنسبة للرواتب؛ لكن في مجتمع المراقبة، عوضت المقاولة المصنع، والمقاولة روح وغاز. أكيد أن المصنع قد كان يعرف سابقا نظام التحفيزات، لكن تعمل المقاولة جاهدة وبشكل جد عميق على فرض تحيين لكل راتب، في حالات ميتاقارة مستمرة التي تمر عبر تحديات، مباريات ومنتديات جد هزلية. إذا كانت المسابقات التلفزيونية الأكثر سذاجة تعرف نجاحا كبيرا، فلأنها تعبر بشكل مناسب عن وضعية المقاولة. يشكل المصنع الأفراد في وحدة، من أجل المصلحة المزدوجة للباترونا التي تراقب كل عنصر داخل الحشد، وللنقابات التي تعبئ طاقة للمقاومة؛ لكن مافتئت المقاولة على إدخال صراع شرس كمنافسة شريفة، تحفيز جيد الذي يعارض الأفراد في ما بينهم ويخترق كل واحد، مقسما إياه ذاته. إن المبدأ التحييني “راتب الاستحقاق” قد استهوى التربية الوطنية ذاتها: هذا، وكما عوضت المقاولة المصنع، ينحو التكوين الدائم إلى تعويض المدرسة، والمراقبة المستمرة عوض الامتحان. ويعد ذلك الوسيلة الجد مثلى لتسليم المدرسة للمقاولة.
في مجتمعات الحراسة، لا نتوقف عن البداية من جديد (من المدرسة إلى الثكنة العسكرية، ومن الثكنة العسكرية إلى المصنع)، بينما في مجتمعات المراقبة لا ننتهي من لاشيء، حيث تعد المقاولة والتكوين والخدمة الحالات الميتاقارة والمتجانسة لنفس التموج، مثل محول كوني. وقد وصف كافكا الذي يحل مسبقا في بداية تحول نمطين من المجتمع، في كتابه “المحاكمة” الأشكال القانونية الأكثر خطورة: البراءة السطحية(7) لمجتمعات الحراسة (بين سجنين) والتأجيل اللامحدود(8) لمجتمعات المراقبة شكلان مختلفان من الحياة القانونية، وإذا كان قانوننا غير حاسم، نفسه في أزمة، فلأننا نغادر الواحد قصد الدخول في الآخر.
تضم مجتمعات الحراسة قطبان: التوقيع الذي يحيل على الفرد، والعدد أو الرقم الترتيبي الذي يحيل على موقعه داخل جماعة معينة. حيث لم ترى الحراسات قط عدم التجانس بين الاثنين، وبالتالي فإن السلطة مجمعة ومنفردة، بمعنى أنها تشكل في جسم أولئك الذين تمارس عليهم وتقولب فردانية كل عضو داخل الجسم (يرى فوكو أصل هذا الانشغال المزدوج في السلطة الرعوية للقديس/ القطيع وكل دابة/ لكن السلطة المدنية ستصبح “راعيا” علمانيا بدورها بوسائل أخرى). في مجتمعات المراقبة، على العكس، لم يعد الأساس قط لا التوقيع ولا العدد، ولكنه الشفرة: الشفرة هي كلمة السر، في حين توجه مجتمعات الحراسة بالتعليمات (وذلك من ناحية الاندماج الاجتماعي وكذا المقاومة). يتكون الكلام الرقمي للحراسة من شفرات، التي تتيح الدخول إلى المعلومة، أو الرفض. لا نتواجد قط أمام الزوج مجموعة/ فرد. أصبح الأفراد “فردانيات” والمجموعات عينات ومعطيات وأسواق أو “أبناك”. ربما أن المال هو الأكثر تعبيرا عن التمييز بين المجتمعين، بحيث أن الحراسة تحيل على عملات منصهرة محتوية على الذهب كعدد مقابل، بينما تحيل المراقبة على معاملات غير محددة، تحيينات التي تقحم كشفرة نسبة لعينات من العملات المختلفة. تعد الفأرة العمياء القديمة حيوان أوساط الحراسة، لكن الثعبان هو حيوان مجتمعات المراقبة. لقد انتقلنا من حيوان إلى آخر، من الفأرة العمياء إلى الثعبان، في النظام الذي نعيش فيه، لكن أيضا في طريقة عيشنا وفي علاقتنا بالآخر. كان إنسان الحراسات منتجا مرحليا للطاقة، لكن يعد إنسان المراقبة بالأحرى متموجا، وفي وضع فلكي. في أي مكان، يعوض ركوب الأمواج الرياضات القديمة.
إنه من السهل تمثيل كل مجتمع بأنماط من الآلات، ليس لأن الآلات تعد محددة، لكنها تعبر عن الأشكال الاجتماعية القادرة على خلقها وعلى استعمالها. استخدمت مجتمعات السيادة القديمة آلات بسيطة كالساعات؛ لكن كان لمجتمعات الحراسة الحديثة كعتاد آلات طاقية، مع الخطر الموضوعي البيئي، والخطر الذاتي التخريب؛ وتتحدد مجتمعات المراقبة بآلات من الجيل الثالث، آلات معلوماتية وحواسيب حيث يعد الخطر الموضوعي التشويش، والذاتي القرصنة وإدخال الفيروسات، إنه ليس تطور تكنولوجي بدون كونه تحول جد عميق للرأسمالية. تحول جد معروف سابقا والذي يمكن إجماله كالتالي: رأسمالية القرن 19 متمركزة، بالنسبة للإنتاج وكذا للملكية. وتؤسس إذا المصنع كوسط للحراسة، فالرأسمالي مالك لوسائل الإنتاج، لكن من المحتمل أيضا كونه مالكا لأوساط أخرى محددة بشكل تماثلي (المنزل العائلي للعامل، المدرسة). ويتم فتح الأسواق بواسطة التخصص حينا، وبواسطة الاستعمار حينا آخرا، وبواسطة تخفيض كلفات الإنتاج أحيانا أخرى. لكن في الوضعية الراهنة، لم تعد الرأسمالية موجهة للإنتاج، الذي غالبا ما تبعده إلى ضواحي العالم الثالث، حتى في أشكاله المعقدة للنسيج، وللصلب أو للبترول. إنها رأسمالية فائض الإنتاج. لا تشتري قط المواد الأولية ولا تبيع المواد الجاهزة: إنها تشتري المواد الجاهزة، أو تركب الأجهزة المفصلة. إن ما تريد بيعه فهو الخدمات، وما تريد شراءه فهي الأسهم. إنها لم تعد رأسمالية الإنتاج، لكن للمنتوج، بمعنى للبيع أو للسوق. ألم تعد أيضا مشتتة، وقد حلت المقاولة محل المصنع. لم تعد العائلة والمدرسة والجيش والمصنع أوساط تماثلية مختلفة التي تنحو نحو مالك ما، دولة أو سلطة خاصة، لكنها أشكال مشفرة، قابلة للتركيب وللتحويل، لنفس المقاولة التي لم يعد لها سوى مدبرين. وقد هاجر الفن أيضا الأوساط المغلقة للدخول إلى الممرات المفتوحة للبنك. يتم فتح الأسواق بواسطة إحكام المراقبة عوض تكوين الحراسة، وبواسطة تحديد العملات عوض تخفيض الكلفات، وبواسطة تحويل المنتوج عوض الاختصاص في الإنتاج. يكسب الفساد قوة جديدة. أصبح قسم المبيعات مركز أو “روح” المقاولة. ونخبر بأن للمقاولات روحا، وذلك هو الخبر الأكثر خطورة في العالم. يعد فن التسويق حاليا سلاح المراقبة الاجتماعية. أصبحت المراقبة على المستوى القريب وفي دوران سريع، لكنها أيضا مستمرة ولا محدودة؛ بينما كانت الحراسة على المستوى البعيد، لانهائية ومتقطعة. لم يعد الإنسان إنسانا محروسا، لكنه إنسانا مثقلا بالديون. صحيح أن الرأسمالية حافظت على وثيرة الفقر المدقع لثلث أرباع الإنسانية، جد فقراء بالنسبة للدين، جد كثيرين بالنسبة للحراسة: لم يعد للمراقبة فقط مواجهة انهيار الحدود، لكن أيضا تفجيرات مدن الصفيح أو الغيتوات.
3/ في البرنامج:
ليس هناك ضرورة علم الخيال قصد تصور آلية المراقبة التي تعطي في كل لحظة مكانة عنصر في وسط مفتوح، حيوان داخل محمية، إنسان داخل مقاولة (شارة إلكترونية). لقد تخيل فيليكس غاتاري(9) مدينة حيث كل واحد بإمكانه مغادرة منزله وحيه، بفضل بطاقته الإلكترونية الفردانية التي تعمل على رفع الحواجز؛ لكن بالإمكان أيضا رمي البطاقة يوما ما، أو بين ساعات معينة؛ المهم ليس الحاجز، لكنه الحاسوب الذي يرصد مكانة كل واحد، المسموحة والممنوعة، ويستكمل تموجات كونية.
يمكن للدراسات السوسيوتقنية لآليات المراقبة، المحصورة في بدايتها، أن تكون قطعية وتصف ذلك الذي أضحى يحل محل أوساط الحراسات، التي يعلن الجميع أزمتها. يمكن لوسائل قديمة، مستوحاة من مجتمعات السيادة القديمة، أن تعود إلى الساحة، لكن بالتعديلات الضرورية. المهم، أننا في بداية شيء ما. في نظام السجون: البحث عن عقوبات “بديلة” على الأقل بالنسبة للجانحين، وكذا استعمال الشارة الإلكترونية التي تفرض على السجين البقاء في منزله ساعات معينة. في نظام المدارس: أشكال المراقبة المستمرة، وكذا فعل التكوين الدائم على المدرسة، والتخلي المرافق لكل بحث عن الجامعة، وإدخال “المقاولة” في كل مستويات التمدرس. في نظام المستشفيات: الطب الجديد “بدون طبيب ولا مريض” الذي يرصد المرضى المحتملين وحالات في خطر، والذي لا يشهد قط على التطور نحو الفردية، كما يقال، لكنه يعوض الجسم الفردي أو الرقمي بشفرة لمادة “فردانية” للمراقبة. في نظام المقاولة: المعاملات الجديدة للمال، منتوجات وأناس لا يمرون قط بشكل/ مصنع القديم. إنها أمثلة جد مقتضبة، لكنها تسمح بفهم جيد لما ندعوه بأزمة المؤسسات، بمعنى الإحلال التدريجي والمشتت لنظام جديد للهيمنة. وتتمثل إحدى المسائل الهامة جدا في عدم جدوى النقابات: مرتبطة تاريخيا بالصراع ضد الحراسات أو في أوساط الحراسة، هل بإمكانها التأقلم أو هل تترك المكان لأشكال جديدة للمقاومة ضد مجتمعات المراقبة؟ هل بالإمكان مسبقا حصر بدايات هذه الأشكال المستقبلية، القادرة على مواجهة مسرات فن التسويق؟ يعلن العديد من الشباب بشكل غريب أنهم “محفزين”، يطلبون باستمرار التكوين الدائم؛ إنهم مطالبون باكتشاف ذلك الذي يسخرون له، مثل ما اكتشفت الأجيال قبلهم ليس بدون عناء غاية الحراسات. تعد حلقات ثعبان أكثر تعقيدا من ثقوب فأرة عمياء.
الهوامش:
* Gilles Deleuze, «Post-scriptum sur les sociétés de contrôle», in L’autre journal, n° 1, mai 1990.
(1) Les sociétés disciplinaires.
(2) Europe 51.
(3) Les sociétés de souveraineté.
(4) Les sociétés de contrôle.
(5) William S. Burroughs.
(6) Paul Virilio.
(7) L’acquittement apparent.
(8) L’atermoiement illimité.
(9) Félix Guattari.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *