*طاهر علوان
الإبادة تقع كما يروي فيلم “أوتوماتا”، من إخراج الإسباني غابي إيبانيز، منذ بداياته لا بسبب غزو فضائي، ولا حرب نووية بعدما تصل البشرية إلى منتهاها في الاحتقان والصراعات، بل إن السبب هو العواصف الشمسية المتتالية التي ضربت الأرض، وأفنت أكثر من 99 بالمئة من البشر، بحيث لم يبق سوى ما يقرب من 20 مليون شخص من الناجين.
الناجون في فيلم “أوتوماتا” وبكل تأكيد هم من الأميركان بلكنتهم ولهجتهم وطريقة عيشهم، تجدهم يتكررون في صورة نمطية للفرد الأميركي، فهل أن ثقافة هذا العالم الافتراضي، هي ثقافة “أميركية” في المطلق إبان تلك الإبادة الشاملة التي تقع فصولها قبيل عام 2044؟
في واقع الأمر إننا لن نعدم إجابة مؤكدة إيجابية أنها نعم، ثقافة أميركية، ولكنها سرعان ما ستترجم إلى معطيين اثنين: الأول ثقافة العصر الرقمي الذي سيسود، فالشاشات الهلامية تحيط بالفرد من كل جهة سواء في منزله أو في الخارج.
شاشات تقدّم أجساما وأشكالا ثلاثية الأبعاد، قصصا وأفلاما، وصولا إلى عروض التعرّي، ثم قدرة الأم الحامل على مشاهدة جنينها، وقد اكتمل في أحشائها، وهو يتحرك من خلال شاشة منزلية كبيرة، ما عدا ذلك فأدوات ليزرية وقراءات بيومترية لكل شيء.
أما المعطى الثاني فهي لغة وثقافة الروبوت: فقد لجأ هؤلاء الناجون من إبادة الحياة على سطح الكوكب إلى أيدي عاملة بديلة، تؤدي جميع الوظائف، شركات توفر خدمات فورية من خلال أشخاص مبرمجين في شكل إنسان آلي، يقوم بجميع الوظائف من تنظيف وبناء وحراسة وحتى رعاية الكلب داخل المنزل، وقد تمّ نسخ جيل من الروبوت قادر على التمرّد على الأوامر، فضلا عن الإحساس بالإحباط والقدرة على الانتحار بأن يحرق نفسه معلنا تمرّده على مبرمجيه.
هذه هي رحلة الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم “جاك” الممثل الإسباني (أنطونيو بانديراس)، أما بيئته المكانية فخراب تام وشامل، البيئة التي يتحرك من خلالها هو أو غيره، محددة بحدود غير مرئية، يتمّ عند تجاوزها إطلاق صفارات الإنذار، حيث تنتشر أكوام القمامة ومخلفات العواصف الشمسية الملوثة بالإشعاع، وتبدو بقايا الأرض وكأنها قد ضربتها قنبلة نووية تركتها أثرا بعد عين.
بموازاة ذلك سيتم خرق أحد البروتوكولين اللذين يعمل بموجبهما الملايين من الكائنات الآلية، وهو البروتوكول الذي ينص على حضر تغيير الكائن الآلي نفسه، وفجأة تتمكن تلك الكائنات من التعبير عن فكرة الألم والقدرة على إصلاح الأعطاب التي تصيبها بنفسها، فيما كانت إلى عهد قريب مجرّد كائنات آلية تعمل بإمرة الإنسان.
لعله شكل آخر من أشكال ثقافة التحدّي بين الإنسان والإنسان الآلي، وإلى أين سيمضي هذا السباق بين الطرفين، خاصة إذا عزز الإنسان الآلي ببرمجيات تمكنه من أن يقوم بوظائف قد لا يتمكن الإنسان العادي من اختراقها، كدخول المناطق الخطرة أو الملوثة بالإشعاعات، وهنا سنجد أن الإنسان الآلي سيقيم عالمه الخاص في تلك البقاع الملوثة، رافضا أن يعيد جاك إلى المدينة.
ولعل هذا الخيال العلمي في جانب منه ينسخ صورة واقعية لوجود بدائل روبوتية، قادرة على تنفيذ العديد من الخطط التي وضعها الإنسان، وفي كل الأحوال، هي ثقافة كائن معزول وثقافة معزولة، فالإنسان المعزول يجد نفسه في مواجهة ثقافة بديلة ومنطق بديل، أي ثقافة وفكرة الصراع.
ولكن هذه المرة مع الكائنات الافتراضية التي تنتشر بكثافة في المكان وترسخ وجودها فيه، الإنسان المعزول عن محيطه، المحاط بالرموز والأرقام و”الأكواد” السرية هو الذي يتشكل يوما بعد يوم، فالعالم يسير أمامه بحسب تلك “الأكواد” والأرقام السرية، ولا تعاطف بينه وبين الآخرين سوى ما تمليه عليه طبيعة العمل.
وسط هذه العزلة التي تمتدّ إلى أرض قفر، يحاول من خلالها جاك سبر أغوار هذا الواقع الجديد، سيحاول العودة إلى الفطرة الإنسانية السوية، وأثناء المخاض العسير الذي تدخل فيه الزوجة لولادة طفل، يقابلها على الشاشات عمليات استنساخ عشرات الكائنات الآلية التي ستنطلق في عالمها الخاص، وتحيط بالإنسان المعزول أصلا.
الإنسان الذي أصبح أقلية وسط إطباق تلك الكائنات على كل شيء، والتعبير عن ثقافات منقرضة وثقافة حاضرة مجدبة جففتها الحروب، حتى إذا فرغ الإنسان منها حوّلها إلى الإنسان الآلي، ليكمل أشواطا جديدة من الصراعات بينه وبين بني جلدته.
_______
*العرب