غصون رحال
( ثقافات )
الحرب العالمية الثانية ، صندوق الأسرار ، او ربما صندوق ” باندورا” تتكشّف خفاياها حكاية بعد الاخرى كلما انتج فيلم سينمائي جديد يكشف كم الانحطاط الاخلاقي الذي لحق بالجيوش الغربية خلال نصف قرن من الزمان .
رغم ان الانتاج السينمائي للعام 2014 تضمن فيلمين عن هذه الحرب العميقة الاسرار ، إلا ان واحدا منهما فقط خطف الاضواء ونال الحظ الأوفر من الاهتمام و الشهرة على حساب الفيلم الثاني الذي لا يقل أهمية. الفيلم الاول تناول الدبابة ” Fury” وما لحق بطاقمها من تقلبات نفسية وعصبية اثناء ملاحقة فلول الجيش الالماني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، اما الفيلم الثاني والذي مرّ بصمت ودون اثارة ضجيج ، فهو فيلم “ The Monument Men” والمبنى على قصة حقيقية تم توثيقها في كتاب يحمل نفس الإسم للكاتبRobert Edsel حول اشهر القصص الواقعية عن صائدي الكنوز الفنية في فترة الحرب الهتلرية على اوروبا .
الفيلم من اخراج الممثل العالمي الشهير جورج كلوني ، وبطولة الممثلة “كيت بلانشست ” والممثلين جورج كلوني ومات ديمون ؛ الثنائي الذي شارك في العديد من الافلام القوية السابقة خاصة سلسلة افلام “ Ocean . تبدأ احداث الفيلم حين اقنع الكابتن فرانك( جورج كلوني ) الرئيس الامريكي ترومان بأن الانتصار في الحرب ضد النازية لن يكون له قيمة حقيقية دون إنقاذ القطع الفنية والاثرية ، التي تمثّل تاريخ اوروبا الفني وتبرز وجهها الحضاري والانساني، من براثن النازية . وعليه ، أمر الرئيس ترومان بتشكيل فريق ضم سبعة من الخبراء في المتاحف وتاريخ الفنون في كل من امريكا وفرنسا وبريطانيا لأجل مساندة جيش التحالف في تحديد مكان هذه القطع الفنية واستعادتها من الالمان.
كان الجيش الالماني قد تمكن خلال فترة احتلاله لفرنسا من الاستيلاء على ما يقارب خمسة ملايين قطعة فنية من لوحات قيمة لمونييه ، روبنز ، رامبرانت ، بيكاسو ، ودافنشي ، بالاضافة الى آلاف التماثيل والمنحوتات وعلى رأسها تمال السيدة العذراء والطفل “لمايكل انجلو ” بهدف وضعها في متحف خاص يحمل اسم الفيرر هتلر ، ولم تكن مهمة الفريق سهلة في اجواء الحرب والقصف والقتل والدمار .
وبالتعاون مع مديرة متحف في باريس ” كليز سايمون ” الممثلة “كيت بلانشيت ” ، قام الفريق بتتبع هذه الكنوز حتى عثر عليها في عدد من مناجم الكربون وعدد من القلاع في المانيا وتمكنوا من استعادة معظم القطع الفنية من لوحات وتماثيل بما فيها تمثال مايكل انجلو ، بالاضافة الى آلاف الكتب التي توثق تاريخ الفن وتضم اعمال الفانين العظام ، وخلال هذه العملية فقد الفريق اثنين من اعضائة بنيران الجيش الالماني احدهما فرنسي والاخر امريكي .
كان سؤال الرئيس ترومان للكابتن فرانك عند عرض تقريره المصور عن القطع التي تمت استعادتها: هل تستحق اي قطعة فنية التضحية بروح انسان ؟ فكان جواب الكابتن فرانك : نعم تستحق .
بالمقابل، غياب هذا الحس المرهف الذي تمتع به جيش الحلفاء رئيسا وجنودا لحماية الإرث الفني الاوروبي من الدمار – والذي بكل الاحوال لا يزيد عمرة عن مئات السنين – واختفاء هذه الاخلاقيات العالية والحرص على المحافظة على حضارة إنسانية عمرت آلاف السنين أثناء حرب الحلفاء على العراق عام 2003 فضيحة تدعو للدهشة .
تشير التقارير الى انه إثر عزو العراق عام 2003 اكتمل تقريبا تدمير حضارة وادي الرافدين التي يتجاوز عمرها خمسة آلاف سنه ، فقد تعرض حوالي 14 الف موقع اثري للنهب والتهريب ، كما تم سرقة محتويات المتحف العراقي الوطني حيث احتوى المتحف على ما يقارب 220 ألف قطعة أثرية، سرق منها 15 ألفا ودمر ما صعب حمله، ولم يعد منها سوى 4000 قطعة فقط ، وما تبقى لا يزال مجهول المصير. وتحولت مدينة اور السومرية – مسقط رأس النبي ابراهيم- بمقابرها الملكية الستة عشر الى ثكنة عسكرية تتجول فوق قبور ملوكها السومريين الدبابات والمدرعات .
ووفقا لمظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) تحول موقع بابل الاثري ( (أحد عجائب الدنيا السبع)، الى قاعدة عسكرية لقوات التحالف من عام 2003 وحتى عام 2004. ورغم انه ووفقا للقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية كان من المفترض أن تقوم سلطات الاحتلال الأميركي/البريطاني بحماية الآثار والمتاحف، إلا انها لم تفعل ، بل سهّلت للصوص الاثار نهب وتدمير ما يقارب 11 ألف قطعة أثرية.
المفارقة التي تدعو للعجب تتجلى في الأفلام التي ينتجها الغرب عن اخلاقيات جيوشهم في الحرب العالمية الثانية للمتاجرة بقيم انسانية وحضارية ،كان لها كبير الاثر في حماية اوروبا وارثها الانساني والفني في زمن ما ، الا ان هذه القيم والاخلاقيات غابت تماما في زمن الديمقراطيات الحديثة وحقوق الانسان . لماذا لا تتجلى هذه القيم الا حين يتعلق الامر بالارث التاريخي والانساني لشعوب العالم المتحضر ، وهل يخضع التراث الانساني لتصنيفات قائمة على العرق واللون والدين أيضا ؟
أمريكا ، نريد فيلما عن أخلاقيات جنودكم أثناء غزوكم لعراقنا .
* روائية من الأردن تعيش في بريطانيا