ماركيز: قوة الكلمات من قوة الأنوثة


*لطفية الدليمي

قبل أن أمضي لصنع مدينتي المتخيلة ، كانت الكلمات تتراقص فوقنا كيراعات مضيئة منفلتة من مجلدات الف ليلة ،طبعة بولاق، بالغلاف الأزرق المذّهب وهي تغرق في ماء سكبه المقتحمون على الكتب ، رفعت يدك وقلت : 

” لن تفنى الكلمات ، هكذا تقول حكمة مشرقية ففي الكلمات خبأت الآلهة آمالنا وما علينا سوى إيقاظها وإدامتها بأصوات النساء كما فعلت شهرزادكم ، لقد أيقظت آمالي بصوت رفيقة حياتي مرسيدس ومن صوت جدتي ولغتها الخلابة وهي تروي الحكايات ، بدأت أشّيد “ماكوندو” قرية العزلة والعجائب ولم يحدث في حياتي أمر ذو قيمة حتى ظهرت جدتي في بيتنا وأنا في الثامنة” 
تنبه الجميع لكلماتك ، وكان ابن طفيل يواسي الجاحظ وفريد الدين العطار يجادل طائر السيمرغ ويزجر البوم ، وأندريه جيد وأبو نؤاس يبحثان في “قوت الأرض” ويعددان الرغبات المندرجة في متنه ، و انطوان دي سانت اكسوبيري يجمع دموع “الأمير الصغير” في إناء كريستالي ويقدمه الى “حي ابن يقظان” الهارب من أمه الغزالة الى وحشة الحياة ، وميشيما يعيد تجسيد حلمه الامبراطوري بانتحار بطولي فتعدو “الخيول الهاربة” على “ثلوج الربيع” وتستيقظ “الجميلات النائمات” فزعاتٍ لدى انتحار كاواباتا بالغاز.
أسألك بغتة : لماذا أعدت صياغة حلمك الإيروتيكي بغانياتك الحزينات وهن يقلدن جميلات كاواباتا فتحولت الرواية إلى عثرة فنية وكان حسبك وحسبنا ياساحرنا مجد رواياتك العظيمة ؟ تبتسم ولا تعلق.
حضرت غابريلا ميستيرال وكورتازار وابن المقفع ورأيتك تمسك بيد أستورياس وغاليانو وفارغاس يوسا وشكلنا جوقة لتسلية الأصدقاء الحزانى الذين أسقطهم المقتحمون عن عروشهم وتنكّرنا بأقنعة متمردين وعشاق وشرعنا نغني للحب والحرية وأشواق البشر فاستيقظ سرفانتس و لوركا وابن زيدون وابن الفارض على ضجيجنا ونحن نستعيد مشهد القتلة يحطمون الأبواب ويقتحمون بيوتنا ويطلقون النار على خارطة العراق وصور الأطفال وأرواح الكلمات وأساطير الذاكرة وآلهة سومر ولوحة ليليث والمصابيح وأقداح الشاي وزجاجة العطر والمرايا.
بعضنا شرع بالنحيب وهو يؤدي دوره ، آخرون انفجروا ضاحكين وبكى جليل القيسي ونظر بعينين غائمتين الى قلعة كركوك وأطياف نازك والسياب والبياتي، رقصت ايزابيل الليندي على أنغام السالسا والتانغو التي عزفها فكتور جارا بأصابعه المقطوعة ، ومسح ابن رشد دموعه بجبة الحلاج وأخذ أمين معلوف يضمد جراح الشاعرة سافو وكونديرا يسأل صديقتي الأثيرة هندية الروح والسجايا أنيتا ديساي:
– هل عانيت من متلازمة الهوية سيدتي؟
تضحك أنيتا ديساي ضحكتها الرصينة وتنهمر خصلة من شعرها الرمادي على جبينها وترتب رداء الساري على كتفها الأيمن وتشير الى إدوارد سعيد وهو يقف خارج المكان يقود اوركسترا غير مرئية وتقول :
-إسأل ادوارد سعيد وأمين معلوف عن معضلة هوياتنا.
تجلس فيرجينيا وولف ساهمة متخففة من أثقال الحياة هي وسلفيا بلاث وفدوى طوقان وأناييس نن في ركن المذكرات ويتهامسن بحديث ينضح منه سحر الأنوثة وحدوسها وقدراتها الخلاقة.
تيار هواء عنيف يهب عاصفا من النوافذ الواسعة التي تحطم زجاجها ، فتتناثر الكلمات والدموع على السجاد والأرائك البيضاء والمناضد والوسائد و ترتطم الكلمات بالجدران وأصوات الرصاص والظلال المحفورة على الساعات والأنفاس المتجمدة على الستائر ومونولوغاتي الحزينة المرابطة في المكان. فيسقط تمثال إلهة الخصب السومرية ويتحطم محدثا ضجة مريعة ، نفزع جميعا ونعلن أسفنا والأسى ، فترفع يدك بوردة صفراء كانت لاتفارقك وتقول:
– لاتهتموا أصدقائي أبدا ، فالأنوثة ستحمي قوة الكلمات و تعلمنا البقاء، فهي مبتكرة الأساطير و مخصّبة أرواحِنا وأجسادِنا واللغات.
___________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *