*أبوبكر العيادي
منذ أربعين سنة، يواصل الأميركي جيف كونز استكشاف مقاربات جديدة لتحويل الأشياء البسيطة إلى آثار فنية، ويبتدع صيغا تتراوح بين فن النخبة والفن الجماهيري.
وبالرغم من شهرته الواسعة، والأرقام الخيالية التي تقدّر بها أعماله، لا يزال فنه محل جدل. في هذه الورقة نتوقف عند تجربته بمناسبة المعرض الاستعادي الذي يقام له في مركز بومبيدو بباريس.
يعتبر جيف كونز من أكثر أعلام الفن المعاصر الأحياء شهرة وأغلاهم، فأعماله الموزعة في متاحف العالم وقاعاته الكبرى تقدّر بملايين الدولارات، رغم استخفاف النقاد بقيمتها الفنية.
بدأ حياته سمسارا في المواد الأولية بوول ستريت، ثم استقرّ بتشيلسي قريبا من نيويورك، حيث فتح ورشة تُنجز فيها لوحاته ومنحوتاته، بمساعدة فريق متعدّد الاختصاصات تنامى على مرّ السنين حتى صار يبلغ الآن حوالي مائة وخمسين. ذلك أن كونز لا يصوغ أعماله بنفسه، بل يكتفي بتقديم أفكار وتصورات ثم يعهد بها إلى مجموعة من المتعاونين الحرفيين.
فنّه هو نقطة التقاء عدّة مقاربات سابقة، فقد أخذ الـ”ريدي ميد” من مارسيل دوشامب، وأشياء المعيش اليومي الضخمة من كلاس أولدنبورغ، وتملك الأداة تملكا غير عادي من أرمان فرنانديز، والبوب آرت من أندي وارول، إضافة إلى فنون الصناعات التقليدية والمصوَّرات الشعبية.
فالإيكونوغرافيا التي يستعملها هي بمثابة كتالوغ للثقافة الشعبية، لا الأميركية فحسب، بل العالمية أيضا، فهو يستحوذ على الأشياء، كما يقول، ويحاول أن يفهم “لماذا يمكن تمجيد بضائع الاستهلاك اليومي وكيف؟”.
طوال مسيرته الفنية التي تقارب الأربعين سنة، استعمل كل أنواع الأشياء المتداولة لدى عامة الشعب، من شفاطات وأدوات كهربائية منزلية موضوعة في صناديق مغلقة من زجاج الأمان مضاءة بالنيون، وكرات سلة معلقة في أحواض أسماك، وتحف من الطراز البائد، وتذكارات المتاجر السياحية (بالونات في شكل أرانب، أرائك منجّدة، خنازير صغيرة من السكر)، علاوة على لعب لها علاقة بالطفولة أو أشياء حميمة.
تقنيات متعددة
يستعمل كونز عدّة تقنيات فنية كالتثبيت والتصوير الشمسي والرسم والنحت على مختلف المعادن (خشب، رخام، زجاج، إنوكس) وحتى الخلق بواسطة الكمبيوتر، وهو ما يعمد إليه عادة في تهيئة تصور للوحات يتولى مسـاعدوه إعادة تشكيلها على القماشة.
هذا المسعى، على بساطته، بوّأه مركز الصدارة ليس في الفن المعاصر وحده، بل في المردود المالي لأعماله. فمنذ 2013، بيعت بكريستيي في نيويورك خمسة نظائر من “بالونة كلب”، بـ58,4 مليون دولار (ما يقارب 50 مليون يورو)، وبذلك صار جونز أغلى فنان على قيد الحياة في العالم.
وهي رتبة سبق أن احتلها عام 2001، حين اشترى منه متحف أستروب فيرنلي بأسلو “مايكل جاكسون والفقاعة”، بـ5,6 مليون دولار وهي منحوتة من الخزف لنجم البوب صحبة قرده.
وبعد أن فقد تلك الرتبة لصالح بيتر دويغ ثم داميان هيرست، استعادها عام 2007 بعمل عنوانه “القلب المعلّق” الذي بيع بـ21 مليون دولار، واحتفظ بها منذ ذلك التاريخ، حيث حقق أكبر رقم عام 2008 عن “بالونة الزهرة” بـ22,9مليون دولار، ثم عن “الزنابق” بـ33,6 مليون دولار ، حتى صار ينعت بسيّد الـ”نيو بوب”.
رمز “الكيتش”
بات كونز تتلقفه أشهر أروقة الفنون في العالم بنيويورك وكولونيا وببيلباو، وخصوصا بينو بالبندقية وغوغاسيان بهونغ كونغ، وأكبر متاحف الفن المعاصر في سان فرانسيسكو ومينابوليس وأمستردام، فضلا عن الأثرياء الذين يقتنون أعماله.
ورغم شهرته الواسعة، لا يزال كونز محل جدل لا ينتهي. فهو في نظر بعضهم من القلائل الذين عرفوا كيف يبلورون أهم ما في التيارات الطلائعية للقرن العشرين، خصوصا “البوب آرت”، فصار رمزا للفنان “الكيتش” الذي يعشقه الأثرياء، من خلال تحويله شخوص الثقافة الشعبية الأميركية (باباي، هولك، مايكل جاكسون، مارلين مونرو.. ) إلى تحف فنية.
فيما يرى البعض الآخر أنه مجرد “بيزنسمان” يدير مصنعا لإنتاج تحف تذكارية معروضة للبيع، وما اتخذت منتجاته قيمتها الراهنة إلاّ بسبب تنافس الأثرياء الجدد (من بينهم المحتال الأميركي الشهير برنارد مادوف) على اقتنائها.
ما بعد الصناعة
لكن الثابت أن أعمال كونز مرآة تعكس صورة مجتمع ما بعد الصناعة، وهوسه بالتطور والمهارة التكنولوجية، وإفراطه في الاستهلاك، ووسائل تسليته التافهة من نوع ديزني. فهي، مصنعة عن طريق عدة متعاونين محترفين وبميزانية ضخمة، وهي سمة من سمات المرحلة، ووجه سافر للحضارة الغربية اليوم.
وما جيف كونز سوى باحث عن الثراء بطريقته، على غرار بيل غيتس وستيف غوبس، ينتج بضاعة تستهوي الملايين، ولا يهمه نفعها ولا موقعها من خارطة الفن عبر التاريخ.
يقول الناقد جيروم كليمنت: “ثمن أعمال جيف كونز انعكاس لمنظومة تضمّ بعض كبار التجار وهواة جمع التشكيلات، مثل لاري غاغوسيان وفرنسوا بينو، الذين يقررون وحدهم ما يكون فنا وما يكون جميلا في الفن.. اليوم سلطة المال وحدها هي التي تحدّد الجمال”.
________
*العرب