حيرة السنة العربية الجديدة؟


واسيني الأعرج*



أكبر الأسئلة، الحيرة التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الخوف. فهي تعني أن لا أفق واضحاً للأسئلة المطروحة. وأن الزمن الذي يمضي لا يعمل إلا على تعميق الأخدود الذي يفصل المستقبل الذي انتظر طويلا عن حاضر لا شيء يسكنه إلا تاريخ الخيبات والهزائم المتواترة. سنة تمضي بسرعة البرق، وأخرى تعود بلا رهانات كثيرة سوى يقين الخوف والحيرة وسؤال دائم لا يموت أبدا. 
كيف كانت السنة التي انسحبت وفيها الكثير من الجفاف والكثير من الفيصانات والكثير من الخوف أيضا من عالم يتهالك، وآخر ينشأ بحيرة وبلا طمأنينة أبدا. العالم العربي الذي عرفناه قبل قرن ينسحب اليوم بسرعة كبيرة داخل دوامة محلية بها طعم الدكتاتوريات التي دمرت خلال حكمها كل إمكانية لزرع بذرة الحياة، ودوامة عالمية تتضح كل يوم معالمها، أصبح واضحا أن تفكك العالم العربي جزء من خياراتها الجيوسياسية والاستراتيجية . يلملم اليوم أشتاته وبتمزق من جديد في ظل ثورات ربيعية لم تأت بالشيء الكثير سوى أنها عمقت جرح الخسارات والخيبات. بسرعة تحول الربيع إلى صيف حارق كان أبطاله الدائمون: الشعوب العربية بمعظم فئاتها الحية، الاسلاميين بتشكيلاتهم الكثيرة الذين لم يتوصلوا حتى اللحظة إلى نقد خياراتهم واستارتيجيتهم المعتمدة للوصول إلى السلطة التي وصلوها في مصر مثلا بفعل الانقلاب الانتخابي فأعادوا إنتاج عقلية المرشد العالم بدل رئيس الدولة الوطنية. في تونس ظهر الإسلاميون أكثر ذكاء وخبرة وحنكة سياسية، فدخلوا اللعبة الانتخابية بذكاء لأنهم يدركون أنهم خزان المستقبل في حالة إخفاق التجربة الانتخابية في تونس. والعسكر الذين لعبوا أدوارا متناقضة، من حماية الدولة الوطنية من الزوال وحماية الثورات من الإجهاض، إلى الانقلابات العسكرية التي يمكن ان تكون قد فرضتها شروط موضوعية، لكنها تظل انقلابات إلا إذا ضمنت سلمية المرحلة الانتقالية، وأن لا يتحول الحاكم إلى عسكري في زي مدني كما كان الأمر دائما في جمهوريات الخيبات العربية. للعسكر حضور كبير في الوطن العربي ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في التقسيمات السياسية لأن وضعه الغريب اليوم صنعته الخصوصية العربية في الحكم، في نزوعها الدكتاتوري، كما في أمريكا اللاتينية مثلا. الجيش الذي شارك في الثورات العربية بحمايتها أو بتحجيم هيمنة القوى المضادة، يحتاج إلى وضع اعتباري سياسي خاص ولو في المراحل الانتقالية قبل عودته إلى مكانه الطبيعي كما تحدده الدساتير العربية والعالمية وهو حماية البلاد والحدود من أي اعتداء محتمل. في الجزائر ومصر وسوريا والعراق واليمن الذي شهد عودة التطرف الحوثي؟ وليبيا التي أصبح تفككها شبه مؤكد، يشكل الجيش حضورا كبيرا في الحياة السياسية وطبيعة نظام الحكم. لكن أهم مظهر قلب الموازين هذه السنة هو ظاهرة داعش التي تبدو في تجلياتها الظاهرية غريبة، مع أنها ثمرة لكل الإخفاقات السياسية والتاريخية العربية. فقد جاءت الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، لتؤكد على أن العالم العربي هش بشكل مفجع، وأن كل ما شيده من مؤسسات ينام في كف الريح وعلى أسس رملية. يتمزق اثنيا وطائفيا ودينيا وعرقيا ولغويا، بعد اختراقات داعش الخطيرة في مدن عربية كبيرة تحولت إلى مخبر تجريبي لها في ترسيخ نموذج الدولة الإرهابية. فقد احتٌلّت مدن كبيرة كالموصل، والرقة، وجزئيا الرمادي ودير الزور وعين العرب وغيرها، لتتحول هذه الأمكنة إلى كماشات قاتلة في العراق وسوريا، على مرأى عيون عالم نووي مسلح حتى الرقبة، سلبي في تحركه وكأن الوضع الجيوسياسي المفروض على الأرض يناسبه، وأن حالة التفكك تخدمه. وعلى الرغم من الضربات الجوية التي لا تعمل أكثر من تحجيم تنظيم الدولة الإسلامية قليلا، في حدود ما يراد له، لا أكثر. 
إنهاك الأنظمة وسرقة المبادرة منها بدون خسرانها، وعدم السماح لداعش بالتحول إلى قوة استثنائية في المنطقة العربية بشكل يهدد التوازن العسكري في منطقة الشرق الأوسط، على الأمد المتوسط والطويل. تزكي ذلك كله قوى عربية وجامعة عربية أصبحت اليوم ملحقة بخطابات القوى العالمية ولم تتميز عنها أبدا. هذا التفتت العربي الذي اتسع في هذه السنة لا يغطي مشكلة الاعتداء الاسرائيلي على غزة التي تظل جرحا فليسطينيا وانهيارا للمثل الانسانية وخيبة للنظم العربية القديمة والجديدة. 
فقد سقطت هذه السنة، مرة أخرى، كل إمكانية للحلول السلمية في ظل التطرف الإسرائيلي المقيت الذي دفع بالكثير من الدول الأوروبية إلى الاعتراف بدولة فلسطين ولو رمزيا بعد يأسها من التماطل الإسرائيلي. السلام الفعلي يقتضي تنازلات حقيقية من طرفي الصراع وقليلا من العدل في قضية هي في النهاية، قضية تصفية استعمار وليست شيئا آخر. 
كل ذلك حدث وتطور على مدار هذه السنة المرتبكة والصعبة، في ظل وضع اقتصادي متهالك وأسعار نفط نزلت إلى الحضيض، مما سيوقف حتما أية تنمية عربية مستقبلية، وموت مؤجل يرتسم في الأفق بالخصوص بالنسبة لبلدان عربية رهنت مستقبلها وآفاقها التنموية على السعر المرجعي للنفط. الأخطر من ذلك كله هو أن منظمة الأوبيك التي ظلت زمنا طويلا تتحكم في أسعار النفط، لم تعد سيدة القرار. فقد حل محلها التحالف الامريكي – العربي المستعد للمضي قدما في هذه السياسة الانتحارية حتى ولو أصبح ثمن برميل النفط عشرين دولار، كما تقول بعض التصريحات مع أن امتصاصا خفيفا للفائض يمكن أن يغير كل شيء. بل إن قرارا صوريا يمكنه ببساطة ان يوقف نزيف انهيار أحدث خرابا كبيرا في الدول الأخرى المرتبطة بحركة السوق النفطية العالمية. تحالفات جديدة تستهدف بالدرجة الأولى روسيا وإيران وكل من دار في فلكهما. نسفت في طريقها فكرة التضامن التاريخي بين الدول المنتجة للنفط.
وكأن عوامل الإفناء والتفكك والانهيار لا تأتي منعزلة ولكنها مصحوبة بحالة هي في المحصلة نهاية جيل وتجربة بكاملها. فقد غادرتنا هذه السنة أسماء ثقافية كثيرة. بعد أن تركه درويش يتيما قبل سنوات، ها هو صديقه الشاعر الكبير سميح القاسم يلتحق به في ظل صمت عربي لا يعادله إلا الموت. كما خسرت الثقافة العربية، والجزائرية تحديدا، المفكر الكبير لخضر بن حسين الذي خلف فراغا كبيرا في الدراسات التاريخية والاقتصادية. كما فقدت الساحة الثقافية العربية وجوها كثيرة من أهمها الناقدة والروائية العربية رضوى عاشور بسبب مرض عضال جسدته في سيرتها الأدبية قبل انطفائها بقليل. بعد وديع الصافي الذي انسحب في عز بهائه، اقتفت خطاه هذه السنة الشحرورة العربية صباح التي رفعت الأغنية الشعبية اللبنانية والشامية إلى مصاف العالمية. جيل انسحب بحزن تاركا وراءه فراغا لا يعوض في ساحة ثقافية وفكرية ممزقة ومهتزة بعنف، يأتي فيها الناس ويذهبون خارج سياق الذاكرة الجمعية وكأنهم لم يوجدوا ولم يملأوا الحياة. شيء واحد في هذا الًظلام العربي القاسي يمكنه ان يزرع بعض الأمل العربي المؤجل دوما. فقد انتهت السنة العربية بنهاية المرحلة الانتقالية في تونس. بعد سنوات التخبط السياسي ووضع اقتصادي قاس وشديد الخطورة ها هي تونس، الوحيدة من دول الربيع العربي،.تخرج منتصرة من عنق الزجاجة بعد أن أعطت درسا لجمهوريات الخيبات العربية لكي تعود إلى مسالك الحوار والانتخابات الديمقراطية كما حدث في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية التي انتقلت من الأنظمة الشمولية والبيروقراطية إلى الأنظمة الديمقراطية. هل ستكون الجمهورية الثانية في تونس رهانا عربيا وثالثيا مستقبليا؟ المهم في التجربة التونسية هي ان تبنى الدولة على أسس حقيقية ومتينة، وليأت بعدها الإسلامي أو الليبيرالي والفوضوي أو غيرهم، لأنهم سيخضعون كلهم للقوانين نفسها. قوانين الدولة والجمهورية. ما ينقص العرب حقيقة هو الدولة الناظمة المعبرة عن الخيارات الجمعية لمجتمع من المجتمعات، التي لا تخضع إلا لضوابطها الموضوعية وتخضع لها السلطة وليس العكس.

* القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *