وسام الخطيب*
(ثقافات)
يعتبر أدب الرحلات من أكثر الأنواع الأدبية خصوصية ذلك أنه يمزج الذاتي بالموضوعي والمعرفي بالجمالي وتمتد جذوره قديماً في التراث العربي من رحلة “ابن بطوطة” الشهيرة إلى رحلة “ابن جبير” ورحلة “ليون الأفريقي” وكذلك كتب “الأدريسي” و”البيروني” وغيرهم …
وفي بداية العصر الحديث أرخ “رفاعة الطهطاوي” و”فارس الشدياق” لذهابهما إلى أوربا وعكسوا تأثرهما الحضاري بالتقدم الصناعي والمعرفي. وها هو الشاعر السوري “علي كنعان” يخط لنا رحلته ويكتب لنا تجربته في اليابان عندما عمل هناك مدرساً للغة العربية لمدة ثلاث سنوات في طوكيو في كتابه “السيف والمرآة … رحلة في جزر الواق واق” الصادر ضمن سلسلة دبي الثقافية شباط/عام 2014م.
ومن الطريف أن نعرف أن جزر الواق واق العبارة التي كنا نسمعها دائماً مأخوذة من واكو وتعني القراصنة في إشارة إلى القراصنة اليابان الذين كانت تهابهم جميع السفن الأخرى العربية وغيرها فجزر الواق واق هي جزر اليابان/ القراصنة … أما السيف في التراث الياباني فرمز الرجل والقوة والشجاعة والمرآة رمز للمرأة والجمال والصفاء والاكتشاف.
يقدم علي كنعان تجربته لنا بصوت الراوي العليم إذا استعرنا المصطلح من النقد الروائي إنه على دراية تامة بما يسرد من حيث المشاهدة والمعايشة اليومية ومن حيث الأبعاد المعرفية الثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية أيضاً بل إنه على دراية تامة بكيفية تقديم هذا السرد من حيث البساطة والسلاسة والعمق وترتيب الأفكار ومنهجيتها ووضوحها.
ويحفل الكتاب بتقديم مشاهد ومواقف يومية تتطرق إلى معظم جوانب المجتمع الياباني : العمل وأهميته ودوره في صعود اليابان عالمياً / التناغم بين الأصالة والمعاصرة / عيوب المجتمع الياباني / الأبجدية واللغة قديماً وحديثاً / المرأة وقداستها في المجتمع الياباني / الثقافة المتنوعة والفن المسرحي والسينمائي / الشعر ولاسيما شعر الهايكو والرواية وأبرز روادها /العادات والتقاليد اليابانية / البيئة الجغرافية والمكانية للمدن اليابانية / الطبيعة الزلزالية للبلاد / التعليم والجامعات / المثاقفة مع الآخر / الأزياء / الأطعمة … وغير ذلك من الموضوعات بأسلوب شائق يرتكز في بنيته على عمليتي التفكيك والتركيب لإعادة رسم صورة اليابان حضارياً في أذهاننا.
ولعل أجمل ما تطرق الكتاب إليه كان تحليله للكثير من الأساطير والدلالات الثقافية المدهشة “ففي تراث الشنتو نطالع العديد من الأساطير التي ترجع بنا إلى أصول التاريخ الياباني، وفق تصورهم. ومن هذه الأساطير أن الجزر اليابانية خلقتها الآلهة، وكانت البداية بزوجين من الجيل السابع هما الفتى إيزانغي والفتاة إيزانامي اللذين هبطا من السماء مكلفين بإعمار الأرض – وأحضرا معهما آلهة مساعدة وقوى خارقة أخرى كأرباب الرياح والبحار والجبال والأنهار والغابات. ومن بين هذه القوى، ربة الشمس أماتيراسو وأخوها رب العاصفة سوسانو-أو. وقد اشتبك الأخ الشقي في صراع عنيف مع أخته وحبسها في كهف مظلم، لكن النصر النهائي المحتوم كان لربة الشمس، مصدر النور والخير والجمال. وتواصل الأسطورة سيرتها لتقول إن الشعب الياباني من أبناء الشمس، وذلك أن ربة الشمس العظمى ذات الإشراق السماوي أماتيراسو-أو-ميكامي هي الأم الأولى لهذا الشعب، وهي التي أرسلت حفيدها نِنِغي ليعمر الأرض، بدءاً من أول جزيرة تشكلت في اليابان حين انحدرت قطرة من سيفه، بعد أن غمسه في المحيط الكوني”ص29
الكتاب في باطنه ينفي سلطة المركزية الأوروبية ويقوضها . إنه يهشم كذلك الصورة النمطية عن الحلم الأمريكي ويسرق الأنظار بعيداً نحو هذا الشرق الأقصى وهذه البلاد الذي تمتزج بها روحانية التراث مع عجلة العلم المتصاعد . إنه نموذج فريد لاحتواء الحداثة والتمسك بالهوية … الهوية هذا المفهوم المتشظي – بخاصة في بلادنا العربية- في عصر العولمة والحياة الرقمية التي تكاد تبتلع كل جوانب الحياة.
من زاوية أخرى لا نستطيع أن نغفل دور هذا الكتاب في ميدان الصورلوجيا فهو يقدم صورة الآخر لنا أي صورة الشعب الياباني بعامة وصورة الرجل الياباني والمرأة اليابانية بخاصة ولعله من الكتب النادرة التي كتبت باللغة العربية عن هذا الموضوع والجدير بالذكر أن الكتاب في ثناياه يقدم لنا أيضاً صورة “علي كنعان” في الارتحال وهي صورة مشرقة بحق إذ أنه استطاع أن يتعايش مع المكان ويفهم روحه وروح سكانه ومن ثم أن يكتب لنا ذلك. إن رحلته أقرب إلى رحلة ليون الأفريقي أو الحسن الوزان الذي امتاز بإنسانيته وقدرته على التسامح والانفتاح إنها رحلة تحثنا على فهم الآخر وتقبله و تذكرنا بأبيات ابن عربي الشهيرة : أدين بدين الحب!
*كاتبة فلسطينية / مقيمة في حلب – سورية