صالحة عبيد: خط يدي السيئ قادني للكتابة


   بدأ الأمر قبل مجموعتي القصصية “زهايمر”، بتلك المساحة الشاسعة من الذاكرة التي أعود إليها دائما في كل مناسبة يدور الحديث فيها حول محاولات الكتابة لأطرح على نفسي السؤال الآتي: هل كنتُ لأكون هنا الآن لو لم أمتلك خطاً سيئاً؟ خط يد غير مفهوم؟
من هذا السؤال أستطيع أن أعود لأتأمل خطي الذي كان مرتبكاً ولايزال بدرجة معينة . . وإن زالت عنه بعض تلك الطلاسم . . أذكر بذلك أول تفاعل لي مع الكلمة عن طريق النسخ الذي ابتدعه لي والدي كرغبة ذاتية منه لتقويم ذلك الخط الملتبس، ثلاثة موضوعات . . تنسخ ثلاث مرات من أي صحيفة أمامي، وثلاث مساحات تحاول فتاة في سن العاشرة ربما فهمها وفك طلاسمها إلى جانب خطها، فتاة أرعبها دخان الصفحة الأولى ومصطلحاتها والشائك من العالم فيها، في شرق مشتعل بشكل شبه دائم، ولم تستطع أن تدرك معنى هموم المجتمع وتفاصيل الحياة المتشعبة في المنتصف فكان أن انتهت هناك . . في الصفحة الأخيرة والعالم يتكون للمتلقي على شكل قصص مختصرة . . مفجعة أحياناً مضحكة أحياناً أخرى . . فكانت تلك الصفحة هي النافذة التي جعلتها تشعر بوجود الآخر على أبسط أشكاله، ومع الوقت أخرجها هذا النسخ الإجباري من صرامته ورتابته إلى فكرة المزيد من المعرفة . . حيث لم تعد تلك القصاصات كافية . . أرادت المزيد، وبطول قامتها الذي كان نوعا ما أفضل من المتوسط العام . . استطاعت أن تلمح تلك الأرفف العلوية في المكان . . المكتبة . . حيث القصاصات الواقعية البسيطة . . تصبح أكبر، هناك تعثرت كثيراً بدهشة وحيرة ومتعة . . مرت على الأسماء بربكة . . لامست الحرف . . أحبته، وتعرفت إلى كُثر . . نجيب محفوظ وأزقة القاهرة وحكايات الإنسان والمجتمع والسياسة فيها، دوستويفسكي و”الإخوة كارامازوف” ومحاولة فهمها لمعنى الداخل الإنساني والجريمة، إلى أن جاءت الانعطافة مع “بؤساء” فيكتور هيجو، حيث جان فالجان . . لم تستطع أن تهرب من فكرة أنه ينتهي مع آخر صفحة . . أنه يموت . . وبعد بكاء شبه مستسلم . . تولدت إرادة عنيدة . . وبخطوة متعثرة أولى بدأت هذه الفتاة تشكل نفسها، صالحة . . الإمارتية من الشارقة التي تحب القراءة وتحاول أن تعيد ابتكار جان فالجان .
الآن، ومع حفظ الألقاب والمقامات، عندما أتأمل ما يذكر حول خط أنيس منصور السيئ وغيره . . أجدني أشعر بالرضا وأبتسم . . الخط السيئ أكبر من حظ . . الخط السيئ قدر . . قدر تسكنه الأفكار التي تحتاج إلى تقويم والأسئلة التي تتكثف حولي وتملأني بقلق الباحث عن أرض ليستوي عليها باستقامة .
ما الذي نريده من الكتابة أم ما الذي تريده منا الكتابة؟ مؤخراً كنت في عالم آسر . . كنت أتجول في تضاريس روح مروان قصاب باشي، الذي يقيم معرضه الفني الأول في منطقة الخليج العربي تلك التضاريس الملهمة التي تجعلك تسيح في مغارب اللون ومشارقه متذوقاً نكهة الفن الخالص، الناتج عن تعب وجودي عميق، وهناك فهمت للمرة الأولى رابط هذا الفنان بعبدالرحمن منيف، رابط الوجود والقلق . . إذ ارتبط اسم مروان بعبدالرحمن منيف في ذاكرتي لأمد طويل، بسبب كتاب رسائلهما المشترك “في أدب الصداقة”، رأيت منيف آخر مختلف كلياً في تلك الرسائل . . هناك التقيت بمنيف الإنسان بهمومه الصغيرة والأخرى الكبيرة، بلحظات اعتامه واشراقاته وحتى بحس فكاهته الذي استغربته من مبدع “أرض السواد” . . لماذا أذكر منيف ومروان قبل الإجابة عن السؤال؟ لأنني عدت من المعرض ذاك إلى مكتبتي، فكتاب الرسائل المذكور . . أردت أن أتذوقه من جديد بشكل أكثر حيوية . . وتعثرت يومها بعبارة لمنيف يقول فيها “الورقة البيضاء كالقماشة تحد كبير، ويبدو أن الإنسان كلما تقدم به العمر يصبح أضعف في مواجهة هذا التحدي” .
أعود من عبارة منيف لسؤال الكتابة الخاص بي، الكتابة . . ذلك الكائن الماكر . . فأنت تبدأ باقتناع تام بفكرة التعبير، بأنك تطوعها لتقول ما أنت راغب فيه بشدة، ومن هذا الاقتناع الذي لا يقبل الشك . . جاءت مجموعة “زهايمر” . . من فتاة اكتشفت أن اعادة ابتكار جان فالجان قادتها لابتكار شخوص أخرى . . أرادتهم أن يعبروا عنها هي . . يوم صدر “زهايمر” . . عن فتاة بعمر التاسعة عشرة وبأفكارها البسيطة تلك . . ظننت أنني وصلت للضفة . . فهمت جدوى الكتابة . . لكنني وبعد تأمل . . رأيت أني لا أقف إلا على جزيرة . . وأن الضفة بعيدة . . بعيدة جداً . جاءت المجموعة الثانية “ساعي السعادة” كمحاولة إنقاذ من خطوة متعثرة إلى أخرى أكثر استقامة على الضفة المنشودة . . ثم “الحياة على طريقة زوربا” . وغيرها من الأشكال الأدبية والمقالات كسعي جديد ومحاولة أخرى . . لكن الجزر كثيرة يا صالحة والضفة تبتعد أكثر، والمساحات البيضاء مازالت تحيط بك من كل مكان . . مع صعوبة أكبر بملئها كلما أدركت أكثر . . وخفت، فارتبكت، فقلقت أكثر . . لذا فالسؤال الحقيقي هنا هو ليس ما الذي نريده من الكتابة؟ بل ما الذي تريده الكتابة منا في عصر تعتقد أن كل ما كان يجب أن يقوله إنسان الكلام من الحرف الأول قبل آلاف القرون حتى الآن قد قيل، كيف تلتقط كل تلك الإشارات التي يرسلها لك كائن الكتابة؟ محولاً إياك إلى كائن أكثر جدوى واختلافاً عن كل ما حولك، كيف تسكت ثرثرة الشخوص التي تهمس بداخلك في تجل واضح عن صوت الآخر الذي تحمل أمانة إيصاله؟ . . في شراكة التعبير تلك . . ولأن القراءة كانت البوابة فإنني مازلت أقرأ في بحث عن تلك الإجابات كلها . . كائن الورق مرجعي الأول والحياة بكل ما فيها من تفاصيل وتناقضات وارتباكات هي مرجعي الأشمل، السرد والبحوث والفكر بكل ما تعنيه من نضج واستمرارية لكيان الإنسان المعرفي، والشعر بلسعته المبهمة على الروح وقدرته على انتزاعك من استلابك الخاص لاستلاب كوني مدهش . . وغيره .
أنا هنا صالحة التي مازالت تقرأ . . والتي تتعثر كثيراً وتنجو بالأحلام ومحاولات الكتابة التي قد تقودها لضفة الوجود، أقول قد لأنها تشرع باب التجريب على الاحتمالات كافة، وقد تصل أو لا تصل
* الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *