*سعيد ناشيد
يستهلّ الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو كتابه الشهير «إميل» بعبارة بليغة تقول: «كل شيء يخرج من يد الخالق جميلاً قبل أن تفسده يد الإنسان». يقصد بأنّ الإنسان يولد كائناً صالحاً طيباً مجبولاً على فعل الخير قبل أن تفسده التّنشئة المستبدّة والقواعد المتشددة.
من المؤكد أنّ رؤية روسو تناقض رؤية رجال الدين الذين يزعمون بأنّ الإنسان خطاء بطبعه، نزاع إلى الإثم والعدوان ما لم يردعه وازع من الدين، أو من السلطة الدينية كما يقصدون. بالنسبة لروسو فإنّ الأخلاق مسألة طبيعية في الإنسان، تولد معه، ولا يحتاج لأجلها إلى أي سلطة تحرس مساحة الأخلاق وتحصن سلوك الإنسان من الشياطين والأرواح الشريرة. لذلك، يكفي أن نترك الإنسان على حريته، على طبيعته، على فطرته، دون تسلط على رقبته، دون رقابة على ضميره، حتى يتصرّف بنحو حسن، وإلاّ فإنّ القيود هي التي تشوه فطرة الإنسان وتفسد أخلاقه، بل لا تكسبه – بلغة نيتشه – سوى أخلاق العبيد، أخلاق النفاق والمسكنة والطاعة والتقية والتواكل، وهي «الأخلاق» التي يدافع عنها رجال الدين باستماتة، طالما أنها أساس سلطتهم على القلوب وتسلطهم على الرقاب.
وإذ يظنّ رجال الدين بأنّ الأخلاق في جوهرها ضدّ طبيعة الإنسان، فنحن نعترف لهم بأنهم محقون في هذا الظن لكن، على أساس أن مقصودهم بالأخلاق أخلاق العبيد حصراً وتحديداً، والتي هي بالفعل ضدّ فطرة الإنسان، وتحتاج من ثم إلى سلطة قاهرة، إلى شرطة دينية، إلى قصاص شرعي، إلى عقوبات زجرية، إلى قتل وقطع وجلد ورجم. لذلك، طبيعي أن ينفي رجال الدين أن يكون للأخلاق أي منشأ طبيعي وإنساني، ويزعموا بأن مصدرها إلهيّ لا غير. وهذا الادعاء هو أساس سلطتهم.
أخلاق التنويرفي المقابل، تقوم رؤية فلسفة التّنوير على أساس أنّ الأخلاق، أخلاق الحرية والصدق والكرامة (كانط)، أخلاق الحرية والمساواة والاعتراف المتبادل (هيجل)، أخلاق الحرية والتفوق والابداع (نيتشه)، أخلاق الحرية والمسؤولية والالتزام (سارتر) إلخ، هي المضمون الفعلي للأخلاق، إنها الأخلاق بألف ولام التعريف، وهي لذلك متناغمة مع الطبيعة البشرية، ولا تشترط شيئاً آخر غير الحرية كجذع مشترك. في المقابل، تقوم الرّؤية الكهنوتية على فكرة أنّ الأخلاق تحتاج إلى سلطة دينية قاهرة ترغم الإنسان على فعل الخير، طالما أن الشيطان يقيم على الأرجح داخل الذات البشرية.
الجدير بالملاحظة – وهذا منطلقنا في الموضوع – أنّ رؤية روسو حول الطبيعة الطيبة للإنسان تنطبق على الدين نفسه، وتنطبق على الإسلام أيضاً. فالدين في منبعه الطبيعي ومنهله الإلهي متوافق مع الطبيعة البشرية، متناغم مع العقل الإنساني، لكنه بسبب عبث أيادي العابثين بدافع السلطة أو الشهرة أو الثروة أو لمجرّد الثرثرة، فقد أمسى متعارضاً مع الطبيعة، متناقضاً مع العقل، وغارقاً في أوحال العنف والخرافة.
مغزى الإصلاح الديني كما نراه ونتبناه، هو تحرير الإسلام من قيم العنف وثقافة الخرافة. وبالتأكيد، حين نقول إننا نحتاج إلى إصلاح ديني فهذا يعني أننا نقرّ ابتداء بأنّ هناك واقعاً اسمه الفساد الديني. وبالطبع، فكما نتكلم عن الفساد الاقتصادي حين تغيب النزاهة ويغلب الطمع، وعن الفساد الإداري حين تغيب الشفافية ويغلب الجشع، وعن الفساد السياسي حين تغيب المصداقية ويغلب الخداع، بوسعنا أن نتحدّث عن الفساد الديني حين تغيب النزاهة والشفافية والمصداقية، ويغلب الطمع والجشع والخداع. وكما أنّ الإدارة ليس من طبعها الفساد، بل الفساد طارئ عليها، فكذلك الفساد الديني ليس من طبع الدين، بل هو طارئ عليه. وهذا ما يجعل الإصلاح الديني أمرا ممكنا. لكن ما الذي يجعله أولوية الآن؟
انحرافات أخلاقية
هناك مشكلة فعلية، قلة قليلة منا من تعترف بأنّ ديننا –على منوال سائر أديان الأرض- قد يصلح حيناً وقد يفسد حيناً، بل قد ينخره الفساد أحياناً. لا شكّ أنّ الكلام عن صلاح الدين يعجب الكثيرين، وأن الكلام عن فساده يزعج الكثيرين، لكن، ليس ثمّة من شك في أن العبارتين متلازمين. لربّما أحتاج إلى تقديم أمثلة لكشف حجم الفساد الديني المستفحل في مجتمعاتنا. سأحاول.. غير أني سأترك الآن جانباً إدارة الجمعيات الدينية، فهذا مقام آخر، وفيه يعرف القاصي والداني بأنّ «أموال الله» هي أكثر الأموال عرضة للفساد طالما ليس عليها من رقيب غير الله ـ أي بلغة القانون لا رقابة عليهاـ وسأقصر النظر على الخطاب الديني نفسه. وبالمناسبة، يجب الإقرار بأن الخطاب الرائج داخل مجتمع معين هو أساس كل السّلط في ذلك المجتمع، من الأسرة إلى المدرسة، ومن مقر العمل إلى وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة. وبعد هذا يبقى الفساد الديني في أساسه فساداً في الخطاب قبل أن يكون فساداً في الهياكل والمؤسسات.
إنّ تفحّصاً متأنياً للخطاب الديني الرّائج في مختلف المنابر والقنوات الفضائية يضعنا وجهاً لوجه أمام انحرافات أخلاقية كبيرة وبالغة الضرر. وعلى سبيل المثال، بوسعنا أن نتساءل: كيف امّحت من الوعي الديني تلك العبارة القرآنية الحكيمة «والكاظمين الغيظ» أمام عبارات تراثية تُحرض على الحقد والكراهية من قبيل «أغيظوا أعداء الملة»؟ كيف امّحت تلك العبارة القرآنية البليغة «والعافين على الناس» أمام عبارات تراثية تحرض على العنف والانتقام من قبيل «فلان حلال الدم والمال»؟ كيف امّحت العبارة القرآنية المعبرة «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم» أمام عبارات مشينة تكثر من السب واللعن والقذف في حق «الكفار» من اليهود والشيعة والصوفية والنصارى وغيرهم؟ كيف امّحت العبارة القرآنية الصريحة «لا إكراه في الدين» أمام عبارات تراثية عرضية من قبيل «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»؟ وما الإسلام؟ حتى هنا امّحى التصور القرآني للإسلام باعتباره يحيل إلى كافة الديانات التوحيدية والابراهيمية أمام التصور التراثي الذي يختزل الإسلام في مجرّد دين واحد، وأحياناً في مذهب واحد، وأحيانا في فرقة واحدة.
ليس للإسلام من شكل نهائي، بل يتخذ دائماً شكل الوعاء الحضاري الذي يوضع فيه. وتلك مسلمة أساسية من مسلمات الوعي الإصلاحي. لذلك، يغلب على هذا الإسلام الذي ورثناه طابع فقه العصر الامبراطوري، عصر التوسعات والفتوحات الامبراطورية، حيث ترسخت مفاهيم البيعة والطاعة والجماعة، وفتاوى الجزية والغنيمة والسبي. وهي المفاهيم والتصورات التي لم تعد تناسب عصر الدولة الوطنية. ومن هنا نفهم صعوبة تعايش هذا الإسلام الموروث مع واقع الدولة الوطنية الحديثة. وهنا مربط الفرس.
وفي كل الأحوال، يجب الاعتراف بأن الدين ليس مجرّد بنية فوقية تابعة آلياً للواقع الاجتماعي للناس، كما يتصور الخطاب اليساري التقليدي، لكنه قوة وجدانية قد تكون في الاتجاه البنّاء كما نحب أن نراها دائما، وقد تكون في الاتجاه الهدّام كما هي أحيانا. ليس الدين مجرد زوائد ثقافية، إنما هو قوة اجتماعية كما يؤكد ماكس فيبر. ولعل ماركس هو القائل – فيما أذكر – يصبح الحلم قوّة مادية عندما يستحوذ عليه الجمهور.
فهل نترك هذا الدين لقوى التدمير، تدمير القباب والمزارات والنصب التذكارية والمتاحف، وصولا إلى تدمير البنايات والمحطات والجامعات؟ هل نترك الدين لقوى التدمير حتى تنخره بالكامل، وتنخرنا معه، وتضيع آمالنا في الأخير؟ أم أنّنا مطالبون باسترجاع هذا الإرث الرّوحي الإنساني من الأيادي التي اختطفته، فأفسدته، وباسمه بدأت تفسد في الأرض وتعلو علوا كبيرا؟
الإجابة واضحة. ولنا عودة إلىالتفاصيل.
_______
*الاتحاد الثقافي