فتح فلسطين: الخليفة عمر من منظور إسرائيليّ


منصف الوهايبي*



  من خصائص الأزمنة الحديثة، الإقبال على دراسة التاريخ، وإعادة قراءته؛ استئناسا بالوثائق والشهادات والآثار. ومقال السيّد وديع عواودة «القدس العربي» 14/12/2014 الموسوم بـ:»دراسة إسرائيلية تؤكد: الفتح الإسلامي لفلسطين كان مريحا ومتنورا»، تنضوي في هذا السياق. ولا أحبّ هنا أن الخّصها، وإنّما أشير إلى ناحية فيها، جديرة بالقراءة حقّا، وهي المتعلّقة بأريحيّة الإسلام وسماحته: «على العكس سمح المسلمون لليهود بالعودة للمدينة بعدما حظرعليهم ذلك البيزنطيون، كما تبقى الكنائس بارزة في مشهدية المدينة؛ رغم بناء الأقصى وقبة الصخرة. ويستند أفني أيضا إلى المؤرخ الإسلامي المسعودي الذي عاش في القدس خلال القرن العاشر، وأكّد استمراريّة القدس بعد الفتح الإسلامي، ووصفها بحوض الذهب الذي امتلأ بالعقارب، فيها عدد قليل من المثقفين وعدد كبير من المسيحيّين الذين تصرّفوا بفظاظة في الفنادق والميادين العامّة. ويشير الباحث إلى أنّ الانكسار الوحيد في تاريخ فلسطين التاريخيّة؛ جاء فقط في القرن الحادي عشر قبيل الحملات الصليبيّة، مرجّحا أنّ عوامل سياسيّة، اقتصاديّة، وربّما تغيّرات مناخيّة تسبّبت بهجرة السكان من البلاد وخراب بعض مدنها».
وهذا المنظورالإسرائيلي للفتح الإسلامي، ليس جديدا كما قد يقع في ظنّ القارئ؛ فثمّة دراسات أخرى غير قليلة تذهب المذهب نفسه. وقد ساق بعضها باحثون عرب مثل نبيل فيّاض في «مدخل إلى مشروع الدّين المقارن». وهو كتاب يعالج جملة من المسائل الحضارية الشائكة، بمصطلحات ومفاهيم غير مأنوسة إلاّ عند أهل الذّكر من ذوي الاختصاص في مثل هذه المسائل. ويعرض في بعض فصوله إلى الأساطير اليهوديّة التي حيكت حول القدس، بل حول التاريخ العربي الإسلامي، بل حول شخصية من أبرز شخصيّاته هي شخصية الخليفة عمر بن الخطّاب، الذي تميّز عهده بالفتوحات العظيمة التي امتدّت شرقا وغربا وشمالا. وقراءة هذه الأساطير ـ وهي مصدر من مصادر المعرفة لا غنى عنه للباحث ـ مما يسلّط الضوء أو بعضه على مسألة القدس.
والكتاب بحث حضاري «علميّ» يقوم على معرفة صاحبه العميقة باليهوديّة دينا وتراثا ولغة، فضلا عن معرفته بلغات أخرى مثل الانكليزيّة والألمانيّة. وربّما اعترض بعضنا على تراكيب فيه غير قليلة ممّا لا تسوّغه العربية. ولعلّها من أثر هذه اللغات أو من أثر الترجمة، ولكنّ ذلك لا يقلّل في شيء من موضوعيته «الجافّة» التي تزعج لا شكّ المسلم الأصولي مثلما يمكن أن تزعج اليهودي الأصولي الذي يتقيّد بالأساطير ويقطع بها على أنّها حقائق تاريخية. في هذا السياق يميّز الباحث بين الإسرائيلي الأصولي والإسرائيلي العالم ـ والعبارة له ـ ليخلص إلى أنّ علماء اليهود يحاولون أن يضفوا صبغة علميّة على أغلب وجوه الحياة في الدولة العبريّة.
على أنّ المثير في هذا الكتاب ـ وكنت عرضته في غير هذا السياق ـ هو إشارات صاحبه الى نصوص تاريخيّة يهوديّة قديمة، كُتبت في الحقبة الممتدّة من فتح القدس وحتى سقوط الدولة الأمويّة. وهي نصوص وظّفتها الموسوعة اليهوديّة الحديثة (النسخة الانكليزيّة) . وقد أوردها نبيل فيّاض كما هي، ولم يقارنها بالنصوص العربيّة التي دُوّنت خلال الحقبة ذاتها. من هذه النصوص اليهوديّة اقتصر على صورة الخليفة عمر بن الخطّاب كما ترسمها الموسوعة اليهودية المشار إليها سلفا. وهي صورة «إيجابية» غير عادية تثير أكثر من سؤال. تقول هذه الموسوعة: «عمر ابن الخطّاب هو الخليفة الثاني (634م ـ 644م)الذي فتح فلسطين وسوريا والعراق وفارس ومصر. نظّم عمر الامبراطورية الاسلاميّة، ووضع للفاتحين الأحكام التي تؤكّد مكانتهم الخاصّة (رغم ضآلتهم العددية)، وجعل التقويم على أساس الهجرة، وأرسى أسس النّظام التشريعي، فاعتمدت الأعراف التي أدخلها على الشكلين البيزنطي والفارسي… وقد تبنّى موقفا إنسانيا من غير المسلمين، فاستحقّ لقب الفاروق (الذي يستطيع أن يفرّق بين الحقّ والباطل). وحسب أحد التقاليد، فإنّ اليهود هم الذين أطلقوا عليه هذا الاسم.»
وتقول المصادر اليهودية إنّ عمر زوّج ابنة ملك الفرس من بستاني، وعيّنه في مركز جالوت (رئيس يهود السّبي). ويُقال إنّ كعب الأحبار وهو يهوديّ اعتنق الاسلام، وكان ضمن حاشية عمر حين فتح القدس، دلّ الخليفة على مكان الصّخرة «إيفن شتياه» (حجر زاوية العالم) على جبل الهيكل، فأمر بتنظيف الصّخرة، واستخدم المكان موضعا للصّلاة حتّى زمن عبد الملك. وهذا، بدوره بنى قبّة الصّخرة (التي صارت تعرف شعبيا باسم مسجد عمر) في هذا المكان. وتقول بعض المصادر العربيّة والمسيحيّة، إنّ أحد شروط المسيحيين سكّان القدس للاستسلام لعمر، كان تحريم إقامة اليهود في القدس. لكنّ موثوقية هذه المصادر تبدو مشكوكا فيها، لأن اليهود عاشوا في القدس زمن العرب. فقد سمح عمر لليهود بإعادة بناء حضورهم في القدس بعد حقبة 500 سنة. ويبدو أنّه خصّص لهم موضعا للصّلاة على جبل الهيكل (الذي طردوا منه في وقت لاحق). ويعتبر التّقليد اليهودي عمر حاكما خيّرا، ويسمّيه أحد المدراشيم «صديق إسرائيل». يقول الطّبري إنّ حكيما يهوديّا أخبر عمر أنّ قدره أن يصبح حاكم الأرض المقدّسة. وُصف عمر بأنه صاحب شرائع تمييز ضدّ الأقلّيات في أراضي المسلمين، لكنّ هذا الزّعم لا يستند إلى أسس علميّة.»
هذا النصّ، في تقديري، نصّ ماكر، فهو يرسم صورة مشرقة للخليفة عمر، ويورد إشارات بعضها ثابت تاريخيّا، وبعضها قلق غير متمكّن تدفع صبغة الحدس والتّخمين الغالبة عليه من خلال عبارات مثل «يُقَال» و»يبدو» لا إلى الاحتراز منه فحسب، وإنّما إلى حمله على غير ظاهره. والذين يعرفون «التّداوليّة» البراغماتيّة، أو لهم حتّى مجرّد إلمام بها، يدركون بشيء من اليسر، وربّما من دون عَنَت يذكر، ألا هدف من هذا النّصّ سوى ادّعاء حقّ تاريخيّ في القدس حتّى لو اقتضى ذلك تمجيد خليفة مسلم ـ وهو جدير حقّا بهذا التمجيد ـ ولكن شتّان بين تسجيل صورة وتوظيف صورة. وما لا يقوله هذا النّصّ أو يقوله مواربة هو الأهمّ : فإذا كان الخليفة عمر «قد سمح لليهود بإعادة حضورهم في القدس.. وخصّص لهم موضعا للصّلاة على جبل الهيكل» فلماذا يضنّ عليهم عرب اليوم بهذا «الحقّ» الذي سنّه أحد أعظم خلفائهم؟! ولا ننسى أن النصّ السالف يستشهد بـ «المدراشيم» (جمع مدراش في اليهودية، مشتقّ من «درش» بمعنى «بحث» أو «درس») وهي نصوص تفسّر الكتاب المقدّس، على أساس أنّ له باطنا قابلا أبدا للاستخدام في أيّ ظرف متبدّل.

*كاتب تونسي

(القدس العربي)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *