عقوبة الاعدام : فتيل انقسام اجتماعي جديد


غصون رحال *




يقال ان ” حقوق الانسان هي الدين الحديث للبشرية” ، فما عادت أخلاق الشعوب تقاس بمستوى التزامها بالشعائر الدينية وطقوس التقرب من الله ، فقد انحرف هذا المقياس عن مساره منذ ان استغلت الكنيسة المسيحية سلطتها الدينية للتدخل بكل ما هو مدني ، سياسي ، اقتصادي من تفاصيل الحياة اليومية في العصور الوسطى ، ومنذ الانحدار المخيف الذي لحق بتأويل وتفسير أحكام ومبادئ الدين الاسلامي فانحرف عن جوهره وخان حقيقته السمحة المتسامحة العادلة النزيهة ، ولا ادلّ على هذه الحقيقة من الفتاوي التي لا تعد ولا تحصى في الحلال والحرام والتكفير واباحة القتل والدعوة الى الكراهية للأديان الاخرى وأخذ الحق باليد وغيرها من الترهات التي جاءت بها الجماعات المتمحكة باقامة الحكم الاسلامي . 

مثل هذا الاستهتار الانساني بسمو الاديان وقيمها الاخلاقية العالية ، دفع المفكرين والفلاسفة لابتكار منظومة حقوق الانسان التي راجت وتطورت من مجرد افكار فلسفية الى اعلانات وعهود ومواثيق واتقافيات تغطي كل منحى من مناحي الحياة ، واصبح تقدم الدول الاعضاء في الامم المتحدة ورقيّها يقاس بمدى التزامها بهذه المواثيق والاتفاقيات . 

لا يمكن لأي انسان يتمتع بالحد الأدني من العقل ووضوح الرؤية ان يرفض مبادئ حقوق الانسان الأساسية ، خاصة الحق في الحياة وسلامة الجسد ، فهذه الحقوق هي حقوق أصيلة وثيقة بالانسان لمجرد كونه انسان اينما كان بغض النظر عن لونه، وعرقه ، ودينه، وجنسه، ولغته . صحيح ان تطبيق هذه المبادئ سيظل مشوبا بالفساد والانحياز والمصالح ومراكز القوى العالمية طالما ان الجهة التي تقوم على هذا التطبيق لا تتمتع بالاستقلالية المرجوّه والنزاهة المتوخاة . 

التمسك بحق الانسان في الحياة على نحو مطلق أدى بالعديد من دول العالم التي تتبنى تنفيذ عقوبة الاعدام بحق من ثبت تورطهم بارتكاب جرائم شديدة الخطورة الى تعديل العديد من قوانينها وفقا للنظريات الجديدة في علم الاجرام والعقاب القائمة على حقوق الانسان والتي تدعو الى الغاء هذه العقوبة . 

مبدئيا ، علينا التسليم ان عقوبة الاعدام هي عقوبة قاسية وتحمل سمات الجريمة ، فهي ، في النهاية ، جريمة قتل مشابهة للجريمة التي ارتكبها القاتل نفسه . وعلينا كذلك ان نتريث في تطبيق هذه العقوبة من منظلق ان على المجتمع ان يصلح افراده المجرمين لا ان يثأر منهم، وعلينا الاعتراف ان هناك محكومين ظهرت براءتهم بعد اعدامهم بسنوات الى آخر هذه المببرات والاسانيد التي تسوقها ثقافة حقوق الانسان .

بالمقابل، علينا ايضا وتحقيقا للعدالة، الاعتراف ان الاهتمام بحماية الجناة في علم الاجرام والعقاب تطور الى حد فاق بكثير التطور الذي لحق بحماية الضحية ، فلا زالت ضحية الاغتصاب مثلا تزوج الى مغتصبها لتفادي العقاب ، ولا زالت “جرائم الشرف” ترتكب لأسباب لا علاقة لها بالشرف ويتم إطلاق سراح مرتكبيها بعد اشهر او سنوات قليلة ، ولا زالت المحاكم تأخذ بالاغذار المخففة في جرائم قتل مع سبق الاصرار ، وتأخذ باسقاط الحق الشخصي على الجرائم الواقعة على الاطفال ان حدثت الجريمة ضمن الاسرة الواحدة وكان الاب او الاخ هو القاتل او مرتكب الاعتداء الجنسي ، وجميع هذه الظواهر مستخلصة من دراسات لقرارات صادرة عن محكمة التمييز الأردنية لسنوات متعددة. 

لعل كتاب ميشيل فوكو “المجتمع والعقاب” الصادر عام 1975 يعد من اوائل الأعمال التي لفتت النظر الى آليات عمل ” السلطة ” الحديثة بما تملكه من قوة ايقاع العقاب والانتقام من الجاني باقامتها للسجون التي شبّهها بمقصلة العصور الوسطى ، الا انها وسيلة لمعاقبة الروح وليس الجسد فحسب ، ووجد تشابهاً كبيراً بين قوانين “الحجر والعزل” التي سنّتها السلطات الغربية في العصر الكلاسيكي لفترة ما بعد النهضة وبين السلوك الذي انتهجته العصور الوسطى بـ”عزل” المصابين بمرض الجذام .

هذا النهج وغيره من النطريات القائمة على حماية الحقوق الفردية للجناة على حساب مصالح المجتمع الشمولية الهم علماء القانون تطوير نظرياتهم في علم الاجرام لمنح المتهمين بارتكاب الجرائم حقوقا متقدمة للغاية ، لعل اهمها : الحق في محاكمة عادلة ، منع التعذيب والمعاملة المهينة ونزع الاعترافات بالقوة ، الاحتجاز في اماكن يراعى تزويدها بالبيئة الصحية والخدماتية اللائقة للحياة البشرية ، والحق في الزيارة ومتابعة التعليم بالاضافة الى مبدأ الافراج المبكر لحسن السير والسلوك الى السجون المفتوحة التي تتيح للمحكوم قضاء بعض الوقت مع اسرته خارج السجن .

كما تطورت طرق تنفيذ العقاب من مبدأ الثأر والانتقام من الجاني الى فكرة ” المجرم الضحية ” الذي دعته الظروف الى ارتكاب جريمته ، فتحولت السجون الى مراكز للإصلاح والتأهيل. 

وعليه ، قبل التناحر حول ابقاء او الغاء عوبة الاعدام دعونا نطرح التساؤلات التالية : 

• مع التسليم بالآلام النفسية التي يلحقها السجن بالمحكوم عليه، هل يشفي هذا النوع من العقاب غليل تلك الأسر التي فقدت احد افرادها ؟ 
• هل تبرد نيران الاب المنكوب بفقدان ابنه او ابنته بمجرد سجن القاتل ؟ 
• هل يخفف السجن من الحزن الساكن في قلب أم فجعت بفلذة كبدها او زوجه وجدت نفسها أرملة ؟ 
• هل يكتفي الاب المنكوب والام الثكلة التي غابت انفاس ابنهما وعيناه وضحكاته عن مرمى نظرهما الى الابد ان يرى الجاني يواصل حياته في أحد مراكز الاصلاح والتأهيل المجهزة بمكتبات ، وقاعات لممارسة الرياضية ، ومشاهدة التلفاز وتعلم بعض الحرف اليدوية ؟ 

• ثم ، هل فعلا تقوم مراكزالاصلاح بدورها في الاصلاح والتأهيل ؟ وهل انخفض معدل الجريمة حقا في بعض الدول بسبب الغاء عقوبة الاعدام ام بسبب الوقوف على اسباب الجريمة ووضع حلول لمنع ارتكابها ؟ 

بعيدا عن المبررات الدينية التي تجيز عقوبة الاعدام وعن الشروط التي يجب توافرها لتنفيذ هذه العقوبة ، فان تحقيق العدالة ينبغي له ان يراعي مصالح كل من الجاني والضحية على حد سواء وليس الغلو في حماية حقوق المجرمين على حساب حقوق الضحايا. 

* أديبة وحقوقية من الأردن تعيش في بريطانيا

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *