مواجهة بالكلمات حول التشكيل وسبل الحياة بين الداوود وعوض




(ثقافات)

-“نهر الأردن” غذاء الروح الذي يجمع بين شقي القلب وحبتي العين


الصديق الفنان خلدون داوؤد.. أسعدني في افتتاح معرضي (أ..ب..ج..د)، الذي جاء مهنئا برفقة الصديق الفنان زهير النوباني. يتواصل المعرض التشكيلي الشخصي للزميلة سميرة عدنان عوض بعنوان (أ. ب. ج. د)، والذي افتتح في العاصمة الأردنية، في 18 كانون الأول 2014 برعاية العين فيصل الفايز في قاعة رفيق اللحام – منتدى الرواد الكبار/ أم السماق، بحضور أكاديمين، تشكيلين، فنانين، أدباء، إعلاميين، أعضاء المنتدى، والعائلة. 
الصديق خلدون، كعادته، طرح عليّ ثلة من الاسئلة المتلاحقة، أو التساؤلات، قبل المعرض، وبعده، واتفقنا أن نتبادل الأدوار، وأن يرسل لي محاوره لأرد عليها، لأن الحوار المباشر –مع خلدون- لا ينتهي، فهو يفجر الاسئلة، وشرارات الابداع بلا توقف، وبتسارع خرافي… وهذا ما يحدث دائما، وما حدث مؤخرا إبان “ورشة عمل نهر الأردن التشكيلية” التي أقامها رواق البلقاء على مدار أيام الاسبوع الثاني من كانون الأول 2014، بمشاركة عدد من الفنانيين الأردنيين والعرب والاجانب و أصدقاء الرواق –وأنا منهم- لاستلهام أسطورية نهر الأردن، وتللك العلاقة التي تجمع بين عمق التاريخ وأسطورية الجغرافيا.
تاليا محاور خلدون التي لامست حقائق أعيشها، بل وتعيش بي، فشكرا لخلدون الذي نبشت ملاحظاته ذاكرتي.

عطر المدن في ذاكرة حية

خلدون: تمسك سميرة عوض بالضوء من على جبال السلط المطلة على نهر الأردن ويسقط هدا الضوء على جبال القدس ونابلس

سميرة: يسكنني الضوء الذي يلتم مساء كل ليلة، يلضم عناق (القدس- نابلس- السلط) فأراني فراشة تسافر في ضوء المدن الثلاث.. فبيني وبين نابلس والسلط ما لا يمكن شرحه وتفسيره من عشق أسطوري، نقشت حروفه على جدران أوعيتي الدموية، وفاضت محبة على وجداني وأعمالي الابداعية، وحتى الأعلامية.. من هنا تجد المدن الثلاث حاضرة ببيوتها ونوافذها وطرقاتها وأشجارها في لوحات معرضي الأول (أ..ب..ج..د).. أن تجمع عطر المدن في ذاكرة حية، تلك هي الحكاية.
أما نهر الأردن، فهو غذاء الروح الذي يجمع بين شقي القلب، وبين حبتي العين، حاضر في قلبي بخضرته المزرقة، أو بزرقته المخضرة، وبسحر العطاء، وقداسة الأديان السماوية.. وبفطرة الماء الذي يعمد ويغسل أرواح الناس المتعبة… أشعرني (سنونو) لا يمل التحليق قريبا من النهر، أغب منه بين ظمأ وظمأ فأرتوي.

غناء صامت للطفولة 
خلدون: تحاول سميرة عوض ان تسترجع خربشاتها الأولى وتغني للطفولة

سميرة: أنت تلامس وجع الحقيقة تماما. فلوحاتي/ خربشاتي الجميلة، هي استرداد حقيقي لطفولتي التي أغنت مخيلتي، وهي محاولة صادقة لعودتي لموهبتي الفطرية الأولى، والتي سبقت تعلمي للحرف/ للكتابة، من الرسم بأعواد الشجر على تراب الأرض، من استخدام ألوان الرمل في الرسم على الأرض والحجارة، هي استعادة للوحاتي التي رسمتها ولم تحفظها الريح فطيرتها، وأسكنتها في مكان قصي.. هي غناء صامت للطفولة تنشده ألوان ألأرض وزرقة السماء… 
هي استعادة لدفاتر رسمي واوراقي طيلة أيام المدرسة، خصوصا في مدرسة يافا الابتدائية في مدينة السلط العريقة، والمدرسة التي هي في الأصل بيت تراثي جميل ليوسف أبو السكر، هي لوحة فنية بحد ذاتها، تصعد إليها عبر أدراج شاهقة ملتوية، تريك في كل صعود لوحة مختلفة، وكلما صعدت درجة أخرى أختلفت زاوية الرؤية.. وفي المدرسة كانت معلمة الفن الاستاذة سهام حداد تشجعني، وتسمح لي بأن اخرج عن الدرس، وأن أبتكر ما أشاء، وأن أستخدم مواد مختلفة، وأن أستخدم ألوان مختلفة، وكنت أحيانا أستخدم المائي بعد الرسم بألوان الشمع فيعطي تأثيرات تدهش الطفلة التي كنتها، وأذكر أنني استخدمت سحابات الملابس، بقايا الأقمشة، الخيطان، نشارة الخشب، وأي بقايا زائدة من أشغال أبي وامي –رحمهما الله- وذهب بي الأمر في احد المعارض المدرسية إلى استخدام قشور الفواكة والخضروات بلصقها على اللوحة، وكان ذلك قبل افتتاح المعرض بدقائق لتظل طازجة الالوأن، كما أذكر أن ماما هدية، أجرت معي عدة لقاءات إذاعية عن تفوقي بالفن، وعن استخدام مواد جديدة، وكان واحدة منها عن ديك رسمته، ثم لصقت عليه الزجاج الملون، بطريقة الفسيفاء.
والأجمل ما استذكره أن معلمة اللغة الانجليزية، هي ذاتها معلمة الرياضة، وأنا كنت لا أحب الرياضة، ودائما ما الجأ لمعلمتي الاستاذة سهام حداد لتأخذ لي الأذن من معلمة الرياضة طيبة الذكر الاستاذة بشرى العمد، لاستفيد من وقت حصة الرياضة في استكمال لوحة او أشغال فنية، وهو ما كان يحدث غالبا.
أظنني يجب أن أتوقف تماما عن نبش ذاكرتي.. الان.. وأقول: شكرا لمعلمتي فيوليت خوري أيضا في مدرسة الميدان، ومديرة مدرستي مريم دبابنة، ومديرتي مي أبو السمن لاحقا، اللواتي شرعن النوافذ لاطلاق أفكاري الفنية واحتكاري لمساحات شاسعة في المعارض المدرسية، وأيضا في مسابقات المطالعة، التي كانت وزارة التربية والتعليم تحرص عليها. 

“ثلاثية الزيتون”

خلدون: تزرع سميرة عوض زيتونها وعائلتها الحرف وأسرته

سميرة: الزراعة أنواع، منها زراعة المحبة، ومنها زراعة الأمل، ومنها زراعة الجمال، وليس بعيدا عن كل هذا زراعة الزيتون، زراعته الحقيقية في “أرض السعد” أرض العائلة، أو زراعته في لوحاتي، ومن هنا جاءت مشهدية ثلاثية الزيتون، التي استلهمت الزيتون وجمالياته، وأستخدمت فيها عصارة الزيتون الناضج، وأوراق الزيتون الحقيقية، وأكملت المشهد بألون الأكريليك، ليكتمل المشهد بغصون الزيتون وأوراقه التي انهمرت من “ثلاثية الزيتون”، وأظنها المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه الطريقة، بحسب علمي وبحثي الدؤوب، وكنت سعيدة بردود الفعل على هذه التجربة الجميلة التي شكلت أيقونة المعرض، والتي أدهشت راعي الحفل العين فيصل عاكف الفايز، وكل من منحني الوقت من الفناننين التشكليين والمبدعين للاطلاع على معرضي.
وأظن توزعي بين أسرتي الصغيرة، والعمل الاعلامي بشقيه الصحفي والتلفزيوني ربما سرقني من اللون بالدرجة الأولى، ومن الحرف إلى حد ما.

“السؤال” ضالة الانسان

خلدون: تؤجل سميرة عوض السؤال.. تبتعد مع الحياة كي يقوى السؤال

سميرة: أعتقد أن الحياة خبرات متراكمة، فإذا أنت مارست عملك لعشرين سنة، فربما كانت الحصيلة، مجرد خبرة مكررة بعدد السنوات، لكنك إن اختبرت الحياة في غير مجال، وفي مجالات متعددة، وأستمتعت بالفنون الابداعية كافة، وأبحرت بين الكتب، ودخلت عقول المفكرين والفلاسفة، وسافرت إلى أماكن جديدة، وتعرفت على بشر يمتلكون الرأي الأخر، وتصالحك مع الرأي الآخر، وتقبل الذوق الآخر، ومن قبل ذلك وبعده، تصالحك مع نفسك، وتقبلها بكل أحوالها.
ويظل “السؤال” ضالة الانسان، وأظن دائما أن السؤال غالبا ما يكون أهم من الجواب.. ولا تنس أنني أحترف الاسئلة، بمعنى أن مهنتي الاعلامية ركيزتها الاساسية “السؤال”.. لكنه السؤال المعتمد على المعرفة والمغرق في التفكير والابتكار. والغريب أننا كلما أوغلت في العمر والتجربة تفيض أسئلتي، وتصير الأجوبة أكثر من نادرة.

ولا أكف عن الحلم

خلدون: همسات بعض احلامها وسباقها مع الابداع

سميرة: أول الصدق ومنتهاه، الانصات لرسائل القلب، وتنقلي بين صنوف الابداع هو محض إنصات مخلص لنبضات روحي، كتبت الشعر، وكتبت القصة القصيرة، وكتبت الاقصوصة، وكتبت الخاطرة، وكتبت الومضة، وشرعت بكتابة رواية لم أنتهي منها بعد، وكتبت السيناريو التلفزيوني، وكتبت نص المكان، ورسمت بغير طريقة واسلوب، وأعددت غير برنامج تلفزيوني من ابتكاري وتصميمي، وخضت تجربة الاخراج التلفزيوني أيضا، وعكفت على خيطاني اطرزها، او أنسجها، وعلى اقمشتي أحولها لمشغولات فنية، أعشق تحويل “الأشياء” إلى “أشياء” أخرى، أحب أكتشاف الجمال المتواري لكنه العميق، أحاول إقناع من حولي –بعملي وليس قولي- بأن الجمال منثور في كل مكان ولكن عيوننا لا تبصر.. هي دعوة لأستعادة البصيرة وعدم الاكتفاء بالبصر.. ولا زلت أحقق أحلامي.. وأصغي لاحلام قادمات احققها..

 ولا أكف عن الحلم
ماذا سأضيف لكل ما هو موجود؟

خلدون: تتابع سميرة عوض هجرات التشكيل الى ارض الجمال متنقلة بين تجربة واخرى

سميرة: ربما تنقلي هذا كنحلة دؤوبة بين عشرات المعارض التشكيلية، بمدارسها المختلفة، وثيماتها الكثيرة، وأجيالها المتعددة، أسهم في صقل ذائقتي الجمالية، وزودني بأدواتي الفنية، لكن وبصدق، هذا الأمر نفسه، اسهم بوعي مني، أو بغير وعي، في تأخير تقديم تجربتي التشكيلية، إذ ظل السؤال يسكنني: ماذا سأضيف لكل ما هو موجود؟ 
لنتفق أن الاقتراب الحميم من الابداع يجعل الذائقة أصعب، ويجعل الرضا عن المنتج الابداعي غاية قد لا تدرك.

أحتفي باللوحة وكأنها لي

خلدون: تكتب سميرة عوض عشرات التحليلات، وكتابات الفن وتحتفل باللوحة كأنها لها

سميرة: نعم، أنا مخلصة للكلمة، أنقل وأنتقد واحتفي باللوحة والفنان، كما ينبغي، أنا في غاية الاخلاص لمهنتي الصحفية، يكفي أنها سرقتني مني كمبدعة.
وحقيقة أحتفي باللوحة وكأنها لي، وهي لي كمشاهدة لها، وكل مشاهد/ متلقي له جزء من اللوحة، وهو شريك ليس في طريقة قراءة رموزها وألوانها فحسب، وإنما في صياغة اللوحة، إذ كل متلقي يزرع بعض من طاقته الايجابية أو السلبية في اللوحة، فتراها تشد الناس من بعده، او تبعدهم عنها.
وأستذكر أول لقاء صحفي أجريته كان مع الفنان المرحوم عدنان الحلو، كان ذلك العام 1984، في رحاب الجامعة الأردنية ونشر الحوار الحوار في صحيفة (صوت الطلبة)، والتي لا تزال تصدرها الجامعة، وكان أول أسئلتي عن لوحة للفنان عنوانها “إنسان العصر”، وصارت اللوحة لي فعلا، إذ تفضل باهداء اللوحة لي، ولا أزال أحتفظ بهذه اللوحة، ومن يومها بت أكثر يقينا أن من يهديك “لوحة” يحملك أمانة الحفاظ عليها، ووضعها في المكان اللائق بها، فهي فريدة، ومتفردة بذاتها. 

تخبيء الدفاتر الأولى أصدق خربشاتنا

خلدون: تستجمع سميرة عوض طفولتها.. تستذكر جامعتها وتنطلق بعفوية الاطفال، وتعلن للجميع: أنا عدت إلى دفاتري القديمة.. إلى لوح طفولتي.. احاول ان أرى معكم حالي

سميرة: تظل الطفولة الأولى بئر الوعي، وبيارة العطر الذي لا ينضب، وتخبيء الدفاتر الأولى أصدق خربشاتنا، وربما أكثرها وعيا، وأشدها إقترابا من الفطرة السليمة. ولعلي كما تقول: جمعت منها بعض لوحاتي المعتقة، وناديت أصدقائي.. فلبوا نداء اللون.. فرأيتني في أعينهم.. وفي كلماتهم.. وفي منحي وقتهم.. رأيت فرحي اللوني يمطر المكان بالدهشة.. دهشتي ودهشتهم..
كما وأن دراستي في الجامعة الأردنية منتصف الثمانينات من العقد الماضي، صقلت شخصيتي، إذ كنت أشارك في مسابقة القصة القصيرة، وفزت لثلاث سنوات، كما كنت أعمل في مطبوعات الجامعة وتحديدا، في مجلة “أنباء الجامعة”، وجريدة “صوت الطلبة”، فضلا عن دورات في الرسم، والخط، والأشغال اليدوية، تلقيتها في دائرة شؤون الطلبة، وتحديدا مرسم الجامعة وكان يشرف عليه وقتها الفنان أشرف أباظة بمشاركة نخبة من الفنانيين من بينهم الفنانة سامية الزرو. 

“جرار الذاكرة”
خلدون: من جرار ذاكرتها تلملم حجارة لوحتها

سميرة: لعل “جرار الذاكرة”، هي أنسب تعبير لما تختزنه الذاكرة، إذ عبأت جراري بجماليات الحجر الذي لا يبوح بأسراره إلا للمقيم في العشق. وللموغل في سر تجدد حكاياه، وقص سير من مروا به. من هنا أغترف مضمون الكثير من اللوحات، التي جسدت بيوت الأهل والأحبة في السلط ونابلس، عمان والقدس، صنعاء وتونس، دمشق والعين.. 

ليكتمل بيت روحي

خلدون: وكانها تسعى لبناء بيت جديد لروحها

سميرة: اللوحة بيت. والكلمة بيت. وهو سعي لتشييد بيوت معمورة باللون والذاكرة.. ليكتمل إعمار بيت روحي، فأسكن المطلق.

المتجددة التي لا تركن إلى السكون

خلدون: تستعجل الزمن وتنظف داخل بيتها الجديد

سميرة: لعلك تقصد أنني قدمت غير ثيمة في معرضي، فهناك الواقعي، وهناك الانطباعي، وهناك التجريدي، وهناك الحداثي، الخ.. من مدارس وتسميات.. لكن الحقيقة هناك “سميرة” المتجددة التي لا تركن إلى السكون، وأراني كما أيام السنة وفصوله، لكل منها ما يميزه، ولكنها في التسمية تتوحد في أسمها “أيام”. 
وأظن في القادم من المعارض أنني سأقدم ثيمة واحدة، وهذا ما بدأت التحضير له.. فالتورط في اللون ضالتي.

هما في قلب قلبي
خلدون: تفكر سميرة عوض بقهوة لضيوفها.. وتستميح درويش عله يعيرها ركوتة لتحضر قهوة اصدقاءها

سميرة:للقهوة مزاجها، وهي طقس كرم عربي بامتياز، حتى أننا في الشائع من دعواتنا ندعو ضيوفنا لشرب القهوة، حتى وإن قمنا بتقديم شيء غير القهوة لهم، والقهوة فرضت حضورها في العديد من اللوحات التجريدية في معرضي، منفردة تارة، متجاورة ومتناغمة مع اللون تارة أخرى، متخذة لها من الأبواب والنوافذ شرفة مخصصة للورد.. 
وليتني أستعيد “قهوة أمي” وحنيني لها كما يقول الشاعر محمود درويش.. وفنجان القهوة الصباحي الأول لأبي، ولكنهما كانا وسيظلان معي، فهما في قلب قلبي.

وللأبيض أسراره

خلدون: في ورشة الرواق الاخيرة لمحت الخوف عند سميرة عوض من الدخول الى الابيض

سميرة: هو احترامي للأبيض. نعم أحترامي للابيض. 
وللأبيض أسراره، فأنت عندما ترسم بالأبيض، يمكن لأي لون أن يغطي الأبيض، لكن لا يمكنك إجبار الأبيض على تغطية أي لون، وحتى إن أمتزج به ومعه، فهو ينتج درجات متعددة من الألوان… مع أن الأبيض النقي هو خلاصة الالوان كلها.
وأظن هذا برز في لوحتي “أميرة النهر”، التي انبثقت من زرقة إنعكاس السماء الصافية على ماء النهر، واكتملت بطمي النهر الطيني.. 
هل أبوح أكثر.. أسرار الأبيض عميقة فهو لون استقبال الكائن.. ولون وداعه.. وما بينهما لون ثوب الفرح…
نعم أحترم الأبيض.. أخشاه ربما.. 




شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *