البانوراما المحفوظية


خيري منصور*

الاحتفاء بذكرى ميلاد نجيب محفوظ كبديل عن ذكرى الرحيل، أبعد من تلك المقولة الساذجة عن نصف الزجاجة الممتلئ، إنها انحياز للمهد وليس للّحد ولمبتدأ الجملة الإبداعية وليس لخبرها أو خاتمتها.

والكتابة عن محفوظ لا تحتاج إلى مناسبة كي تبررها، فالروائي العصامي الذي لم يمتثل لتعريف لوكاتش الشهير للرواية بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية، أنجبته الطبقة الوسطى المصرية في ربيعها، حين كانت حاضنة دافئة لكل حراك ثقافي أو سياسي، ولم تكن جائزة نوبل التي نالها شرطا للاهتمام بمحفوظ، إلا لمن لا يقرأون بعيونهم وبوعيهم بل ينوب عنهم الآخرون في ذلك، وما أعنيه ببانورامية محفوظ ليس الإحاطة بمنجزه الروائي على نحو اختزالي، بل قراءته الشاملة للتعرف على الهواجس التي استمرت معه، فما يقوله البير كامو في كتابه «وجها الحياة» يصح على محفوظ أيضا، وهو ان لكل كاتب نبعا واحدا يغذي نصوصه على امتداد العمر، وهذا ما حاوله الناقد فيليب يونغ، حين قرأ ارنست همنغواي وهو يقتفي النهر من المنبع إلى المصب. ونجيب الذي صّنف واقعيا يفرض على الناقد أن يعيد تعريف الواقعية، فهي واقعيات وليست واحدة، منها التسجيلية الأقرب إلى الفوتوغرافية ومنها الفائقة أو واقعية الممكن، كما هي لدى تشيكوف الذي كتب عمّا سوف يحدث بعد رحيله وليس عما حدث في زمانه، كقصة الخادمة التي خنقت طفل مخدوميها من فرط النعاس، فبعد رحيل تشيكوف نشرت صحيفة روسية خبرا عن تلك الحادثة وكأنه طبعة جديدة من قصة تشيكوف، وهناك خمسة محاور سأتوقف عندها تباعا تتشكل من حاصل جمعها البانوراما، وهي على التوالي استراتيجية التسمية، فاسماء شخوص روايات محفوظ ذات دلالات معكوسة، نور في «اللص والكلاب» بغي تعيش في الظلام، وصابر الرحيمي في رواية «الطريق» أرعن ونافد الصبر، وكذلك اسم كامل الذي يعاني من نقصان شديد في تماسكه وتكوينه وميوله الجنسية، وسعيد مهران الذي لم يكن سعيدا على الاطلاق، بل كان مثالا للتعاسة في حياته ونهايته، والاسم الوحيد الذي شذّ عن هذه القاعدة هو أمينة الام في الثلاثية، وذلك لأن نجيب محفوظ سواء بوعيه أو لاوعيه كربيب للطبقة الوسطى وتقاليدها لم يستطع أن يعطي اسما للام الطيبة غير ذلك الاسم المشتق من الأمانة والأمان.
والمحور الثاني وجودي مشوب بالحذر وهو هاجس البحث عن معنى للوجود، بدءا من قصة زعبلاوي ثم تنامى في «الطريق والشحاذ وأولاد حارتنا»، فصابر الرحيمي في الطريق وجد من يقرأه قراءة تأويلية اعتمادا على القرائن، فهو ذو شعر أسود ناعم وقادم من كابول الأفغانية، لهذا فهو أقرب ما يكون لجمال الدين الأفغاني، وتلك بالطبع قراءة تأويلية تحتاج إلى حشد المزيد من القرائن قبل الاحتكام إلى صفات شكلية.
والمحور الثالث كان أول من أشار إليه الراحل محمود أمين العالم، وهو رؤية نجيب للإسكندرية، وكأنها خارج السياق المصري، سواء من حيث كونها هيلينية في مرحلة ما، أو كوزموبوليتية في مرحلة لاحقة، فأبطال نجيب الذي يهزمون في القاهرة يرحلون إلى الإسكندرية للبدء من جديد، وثمة نموذجان لهذا المحور، أولهما رواية «السمّان والخريف» التي هاجر بطلها عيسى الدباغ بعد تجريده من منصبه، وأفول نجم حزبه بعد ثورة يوليو إلى الإسكندرية وأفرغ همومه بفتاة ليل اسمها ريري، ثم حملت منه وتنكّر لها، لكن الرواية تنتهي باعتذاره لها وزواجها. أما في رواية «ميرامار» فإن الشخصيات التي تلتقي مصادفة في بنسيون ميرامار منهم الصحافي الوفدي المتقاعد والانتهازي، الذي استغلّ موقعه في الاتحاد الاشتراكي للنهب، والطالب الماركسي والإقطاعي الذي لم تشمله قوانين التأميم، هؤلاء بدوا في البانسيون كأنهم يعيشون في سفينة في عرض البحر، وقد تكون رواية لورنس داريل «رباعية الاسكندرية» التي تعاملت مع الإسكندرية كمدينة مخلوعة من سياقها التاريخي والثقافي وحتى الجغرافي قد أشاعت في تلك الآونة مناخا أثر في عدد من الكُتّاب.
والمحور الرابع هو ما تردد عن نجيب محفوظ سياسيا، وهو أنه حاول تجنّب الكتابة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وثمة من تطرفوا في هذا القول حتى انهم رأوا في هذا التجنّب سببا في نيله جائزة نوبل، لكن من يقرأ خطاب نجيب محفوظ الذي ألقي في السويد نيابة عنه يجد أن الرجل كان بالغ الصراحة وهو يتحدث عما يجري في فلسطين، وذكر بعض المشاهد من الضفة الغربية وقطاع غزة. كما ان الكتابة عن النضال الوطني لا تخضع دائما للجغرفة، فما كتبه نجيب عن ثورة 1919 وعن العدوان الثلاثي والحراك الوطني المصري ضد الاستعمار البريطاني لا ينفصل عن أي كتابة تعالج الاحتلال وأشواق الاستقلال.
قال نجيب محفوظ في خطاب نوبل وبالحرف الواحد: «في الضفة وغزة أقوام ضائعون، رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجداد أجدادهم، هبوا يطالبون بأول مطلب حقّقه الإنسان البدائي، وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به، فكان جزاء ثباتهم الباسل النبيل رجالا ونساء وأطفالا، تكسير العظام والقتل بالرصاص وهدم البيوت والتعذيب في السجون». وكان يمكن للرجل أن يتجنب ذكر أي شيء له علاقة بهذا الصراع، لكنه جهر به في عقر دار الجائزة.
والمحور الخامس وهو إشكالي بامتياز وفيه الكثير من المفارقات، إنه موقف نجيب من الإسلام، ففي عام 1987 وقبل نيله جائزة نوبل بعام واحد، أجاب عن سؤال توجه به إليه الكاتبان باربولسكو وفيليب كاردينال وهو: هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟ فأجاب: نعم إن ذلك ممكن لأن مبادئ الإسلام تشجّع العلم وترفض التعصّب وتدعو للتعايش.
لكن بعد فترة من تلك الإجابة تعرّض لمحاولة ذبح من متطرفين، ورغم نجاته منها إلا أنها حرمته من الكتابة باستخدام يده. وما قاله محفوظ عام 1987 أي في اوج سني النضج يضيء لنا تلك الهواجس الوجودية، أو الشجون الزعبلاوية فكأنه المعادل الروائي لأبي حامد الغزالي الذي بلغ اليقين عن طريق الشك.
وقد تكون علاقة محفوظ بالسينما وكتابة السيناريوهات حتى لأعمال غير أعماله محورا سادسا لكن هذا المحور بات معروفا حتى في النطاق الشعبي.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *