ديك شهرزاد وماكوندو


*لطفية الدليمي

لم يعرف القرن العشرون صانع أعاجيب يضاهيك أيها الساحر ماركيز ، فقد مازجت بين موروث الشرق والغرب وابتدعت وصفة جديدة للواقعية السحرية تخطت سحرية خوان رولفو الذي يعد المؤسس الأول لها في روايته الفذة ” بيدرو بارامو”. 

في مطلع الثمانينات ، وقد توجوا أدب أميركا اللاتينية في شخصك ، عندما “وضعت جائزة نوبل في جيبك” كما علق صديقك ومنافسك الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس – كنت أقرأ رائعتك الخالدة “مائة عام من العزلة” ، وكانت متاهتك تفوح بروائح عتيقة وَخِمة ومالحة من بقايا تخليق العالم وهي توقظ الكائنات وتدعوها لاجتناء المتع من النساء والثمار والنبيذ والاختراعات والحروب تأسيسا على “مبدأ اللذة” الذي تلوّح به روايتك بعد أن تجاهلته تعاليم الغرب الدينية طوال العصور الوسطى وتمسكت بتعذيب الجسد لبلوغ خلاص الروح لكنك دعوت للفكرة الإحيائية ورؤيتك للروح في عبارتك الكاشفة “كان الغجري يصرخ بصوت أجش : للأشياء أيضا حياتها الخاصة والمسألة هي في إيقاظ روحها”.
وهكذا كان ، وأيقظت أرواح الجماد والشجر في روايتك وزاوجت بين عالم الشرق والعالم اللاتيني ،عالم العزلة الغرائبي ومخلوقاته وغجره وشبق كائناته الحزينة وهذياناتها وعالم “الف ليلة وليلة” الذي نشأنا على عجائبه وحسّيته ومكائده.
ووجدتني وأنا اقرأ روايتك المدهشة – في متاهتين : مئوية ماكوندو، وألفية شهرزاد . سحرتني عوالمك الخيالية ومدنك وقبائل البشر صناع الخوارق ولفحتني أدخنة من كآبة ماكوندو ومواكب السحرة وتناوبتني شعوذات الساحرات الشرقيات اللائي وزعتهن شهرزاد بين البراري وقصور البلور، ورأيت الرجال مبهورين أمام الأشجار التي تثمر نساء طازجات و الفتيات الحسناوات في ماكوندو يحلقن الى السماء بأجنحة نورانية ، بينما ينشغل أحد أبناء آل بوينديا ببذر أطفاله في أرحام فتيات القرى التي يمر بها فصيله العسكري ليتكاثر نسله المحرم في الأصقاع النائية وتنتشر لعنة أسرته بين القاتل والمقتول.
كان للسماء حينها لون اللهب و شجن أغنية حب يتصادى بين قوافل المترحلين في البراري فإذا بالأم الكبرى ( اورسولا) سيدة الذاكرة وصانعة حلوى السكاكر ، تتهادى بمشيتها العرجاء و تجرجر خلفها أعوامها المائة كذيل طويل من الحسرات وتطرق نافذتي بزهرة بغنونيا وردية وهي تحمل في يدها الأخرى ديكا بألف ريشة ملونة وتهمس في ضباب الرؤيا: 
– أعيد لكم الديك الذي أخرس شهرزاد في كتابكم ، فقد اقتفى أثر صوتها حتى وصل قريتنا ماكوندو الحزينة، نحن لانحتاج ديكا ينذرنا بقدوم الصباح ويبدد أحلامنا ويوقف سيل القصص لأننا نحيا في ماكوندو بالحكايات والعجائب ونتغذى على رحيق الأحلام ، أما أنتم فيبدو أنكم توقفتم عن الحلم واستسلمتم لترهات العيش والانصياع لما تؤمرون به وأهدرتم دم الخيال ، لكننا سنواصل في قريتنا الصغيرة ارتياد الأحلام وسرد القصص ولن نتوقف عن الإيمان بسلطة الخيال.
ديك شهرزاد الذي كان يضبط إيقاع الحكي الأنثوي كل فجر ،لم يحتمل صبر شهرزاد واحتيالها في تأخير مصيرها فأصابه ملل الذكور ونفاد صبرهم واختار التخلي عن انضباطه ومهمته العتيقة مغتاظا من ألاعيب شهرزاد وشعوذات الأنوثة ، فشرع يصيح وينفش ريشه ليل نهار ليطغى ضجيجه على كل صوت فسكتت الساردة الأولى وغابت في سبات طويل كأنه الموت ، وماعادت قصصها تطوف الآفاق وتبلغ الأسماع ، حتى أيقظها رحالة غرباء صحبوها إلى بلاد الغال، فأعاد لها صوتها الأديب الفرنسي “انطوان غالان” الذي قدم للثقافة الأوروبية أول ترجمة لألف ليلة وليلة ليتأثر بها غوته في روايته “فيلهلم مايستر” و بورخيس في قصصه العجائبية وكويلهو وأندريه جيد وآخرون.
 يتبع
________
*المدى

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *