*ناصر الريماوي
( ثقافات )
كان يمكن لهذا اليوم أن يغدو عاديا لولا جنون اللوحة الغافية على جدار معهد الفنون، والتي بدأت تثرثر لحظة أيقظها نزوح السيدة عنها في يومها العاصف، مخلّفةً وراءها تلك النظرة المتكلفة بشرود مفتعل وابتسامة صافية على وجه سيدة أخرى، ثم لمْ تَعُد…!
ولولا لسعة البرد الصباحية في ذلك اليوم التشريني لرياح تحرّكت فجأة وأخذت تطوف بين أحياء المدينة باكرا، سُحب رمادية متفرقة تجمهرت فوق “نهر السين” ثم التحمت بكثافة لتحجب زرقة السماء، أبواب شرفات حجرية صغيرة مواربة ونوافذ مشرعة لمنازل مطلّة على النهر، كان يعاد إغلاقها باحكام شديد. تتوغل العتمة وتشتد الرياح ، حتى تقفر الطرقات الفرعية وساحة كنيسة “سانت روش” والساحة المجاورة لمتحف “اللوفر” على غير العادة، ويخلو جسر “بونتديزارت” المثقل بأقفال الحب من زوّاره العشّاق والمارّة، أعبر مسرعا نحو طرفه الآخر، إلى الارصفة وسط الساحة المحاذية لمعهد الفنون، والتي بدت خالية تماما، إلا من رسّام شاب بزي فولكلوري لافت يشير إلى حقبة تاريخية بعيدة، بقبعته العالية وبنطاله الضيق ومعطفه الاسود الطويل، وهو يجلس إلى مظلة وحيدة تشبه مظلات المقاهي المتناثرة على أرصفة “مالاكي وكونتي” المجاورة، تحسّبا لهطول مفاجيء للمطر. يقف ويباشر عمله، يتنقل أمام لوحته المثبته إلى مسند خشبي بخفّه، وينظر بتركيز شديد إلى فتاة تجلس أمامه بوقارعلى كرسي دائري مرتفع بلا مساند، وتحدّق نحو الجانب الآخر من النهر بشرود مفتعل، كان يحث الرياح بحركة من ذراعيه لتعبث بفستانها الفيكتوري، الواسع، المشغول بقماش من الساتان وشذرات الدانتيل، بياقتة المربعة عند الصدر، والمطرز بلمعة الشامبانيا، كانت هي تلم شعرها الطويل بيديها ثم تعيد نثره من جديد بهزة من رأسها، لينسدل فوق صدرها وكتفيها، كانت تفعل هذا بشكل متواصل، لم يتنبه أيٌ منهما إلى وجودي بينما انبثقتْ فجأة مفردات باهته وسط المكان، بدت قديمة ومختلفة، أطلّتْ من وراء ستارة رمادية اسدلتها العتمة لتغدو من خلالها المدينة ضبابية الأجواء والمعالم، مراكب شراعية أخذت تنزلق على جانبي جزيرة ” دولاسيت” محملة ببضائع وسلع معروضة وتتهادى نحو الجسر، أكواخ صغيرة بدت وكأنها تطفو على ظهور مراكب عائمة، تنفث في كسل سحبا رمادية متقطعة عبر مداخن قصيرة تخترق سقوفها الخشبية الواطئة وتطل في حياء نحو الفضاء الرحب، بينما ترفرف أرتال الملابس بفعل الرياح على حبال غسيل مثقلة، تلتف حولها وتطوّق الفسحات الامامية حتى تكاد تحجبها. أكشاك من الصفيح والخشب نبتت وترامت على امتداد ضفتي النهر، إلى جانب أشجار صفصاف عالية لم تكن قبل هذه اللحظة، “باريس” بأكملها لم تعد مألوفة لكنها لم تتبدل تماما لتبدو غريبة. الرياح تشتد وتنذر بعاصفة مطرية قادمة والرسّام بدا وكأنه قد أنهى لوحته سريعا، أخفاها بحرص شديد تحت معطفه الثقيل، ثم عبرا الجسر معاً، عند منتصفه، توقفا، وراح يرنو كل منهما إلى الآخر بلوعة، تحدثا لبرهة، ثم تعانقا طويلا، الفتاة تنزع وشاحها الأزرق ليتقاسما طرفيه مناصفة، كل منهما عقد طرفاً في سياج الجسر، ثم ما لبثا أن تعانقا بنهم لمرة ثانية وأخيرة، ثم افترقا. الشّاب أخذ يبتعد حتى توارى خلف كنيسة “سانت روش”، متأبطا لوحته ومسنده الخشبي، أما الفتاة فقد هرولت نحو الارصفة التي تحولت إلى فراغ كبير، وأخذت تركض بين اكشاك الصفيح قبل أن تدلف إلى النهر عبر عارضة خشبية تصل بين الرصيف وبين أحد الأكواخ العائمة على النهر، غابت في جوف الكوخ لدقائق، لتخرج منه بثوب آخر، بدا وكأنها أرتدته على عجل، قبل أن تغيب في برد الأزقة الضيقة للمدينة على الجانب الآخر. هبط المساء سريعا… وأنا أرى جسر “بونتديزارت” بلا اقفال، العتمة التي تخطته في زحفها المتواصل، قلبت كل شيء! فمنذ قليل، كان السياج الحديدي على جانبي الجسر يترنح تحت وطأة المئات منها، لكنه الآن يحتفي بوشاح واحد يخفق بشدة في وجه الرياح. سرعان ما اندفع شاب آخر إلى جانب فتاة بلباس تراثي، عبرا أول الجسر في قلق وارتباك، زرعا منديلا في سياجه بالقرب من ذلك الوشاح الازرق، ثم غادرا معا بارتياح ودون أن يفترقا، قالت له الفتاة بصوت مسموع وهي تضمه إليها: الليلة يمكنني النوم ملء جفوني …، عاشقان آخران، لم تمنعهما هالات السواد حول عينيّ كل منها من أن يعبرا الجسر بهمّة عالية لعقد منديل آخر، ثم الرحيل بطمأنينة. تدفق عدد كبير منهم، حتى إمتلأ السياج بأشرطة القماش وشتى المناديل النسائية إلى جانب الوشاح، بدأ الرذاذ يتساقط فيما تراجعت العتمة قليلا، عند منتصف الجسر تعثّر بصري بفتاة أخرى، تسللتْ خلسة واخذتْ تتلمس ذلك الوشاح بحنين، تطالع الأفق ثم تنحدر ببصرها نحو النهر في شرود، كانت مسربلة بأسمال تراثيه نظيفة، لكنها أردية فقيرة كتلك التي ترتديها نساء العوام، تضاعفت دهشتي وأنا المح وجهها، بادرتها بلا مقدمات: ألستِ أنتِ من عقد هذا الوشاح هنا، منذ قليل، برفقة ذلك الرسّام ؟! استحال شرودها إلى حيرة، وهي تلتفت نحوي، ردّت بعد تفكير طويل: بلى، أنا هي … لكن ذلك كان منذ سنوات عديدة!
تفرّقت بعض السحب وخفّت شدة الرياح، لكن الرذاذ ما زال يتناثر وأما العتمة التي تراجعت قليلا، فقد رحلت بالكثير من معالم المكان، لتضاعف من حيرة الجميع، واصلتْ تلك الفتاة: لكني لا ألومك، فهذه العتمة أقسى ما يَمُر بنا، وقد أصابتنا جميعا بالأرق، ثم هذه المدينة مسكونة بالفراق منذ أن تساوى فيها هاجس الحب بالحرب…
قلت: ربما، والرسّام…؟
– تقصد “توماس”…؟ هو يكره الحروب ويخشاها بقدرعشقه للرسم… ولي. كانت “روما” حلمه الأول وكابوسي الأخير، ولهذا فقد رحل وبقيت أنا، أراد لتلك اللوحة أن تكون له بمثابة الهوية هناك، وحافزا لإنتظاري هنا. تنهّدَتْ بأسى وهي تواصل: منذ سنة، لفظتهُ “روما” على اتساعها، لتبتلع “فينيسيا” صدى نجاحاته وما تبقى لي في قلبه… ومنذ ذلك الحين لم يصلني عنه خبر!
أشرق وجهها للمرة الأولى وهي تشير لذلك الوشاح : مادام هذا الوشاح هنا فلا بأس، فسوف يرجع، حتما سيرجع…، ثم مضت بارتياح كبير، كالأخريات.
تلك الأمسية، لحقها الصوت الأنثوي الدافيء معاتبا من جوف ذلك المركب العائم وهي تغادره مندفعة بين حبال الغسيل نحو الأرصفة : “نادا” … ماذا لو رأت تلك السيدة ثوبها الموشى بلمعة الشامبانيا على اللوحة؟ حتما لن تكتفي بمقاضاتي بل ستقتلنا جميعا قبل أن تتحول لغسل ثيابها إلى مركب آخر…!
ردّت “نادا” بلا مبالاة وهي تجري مبتعدة فوق حافة النهر: أعدته لكِ وكفى، ثم تلك اللوحة لن تبقى في باريس، فلا تقلقي…، توقفت فجأة بين كشك بيع النبيذ وكشك الوجبات السريعة، وهتفت: بالمناسبة، أخبري الأخريات عن ذلك الوشاح على الجسر، هناك، وسوف يودعن الأرق إلى الأبد.
ثم استقرّت على عمق بعيد وسط إطار نافر مزخرف، وكأنها تترك عليها أثر إبتسامتها الأخيرة، بنظرة لم تكن متكلفة مثلما بدت وهي تصوب نحو النهر، هذا ما افضت به اللوحة على الجدار، حين تحول بصر السيدة في يومها العاصف نحو المصابيح وهي تنطفيء باكراً، منذ سنوات لم تشهد على عتمة حالكة، كتلك، والتي خلفها غياب المصابيح عن النهر. كانت تقفل راجعة بوحشتها نحو غابة “بولونيا”، وتستعيد وحيدة في سماء حجرتها هول ذلك التراكم التدريجي للعتمة، بدءاً بأكشاك الطعام والسلع، والقوارب العائمة … وانتهاءاً بسلسلة المنازل المحاذية للنهر، ولمّا لمْ تنم ليلتها، أدركت بفطرة المرأة العاشقة، بأن غياب الأرق المعتاد
عن سماء المدينة، قد أرّقها في تلك الليلة.
لسنوات واللوحة على حالها بينما ابتسامة السيدة في يومها العاصف تفيض، والنظرة تتخلص من تكلفها شيئا فشيئا مع الأيام، و “نادا” لا تعرف بهذا الأمر، فهي لم تعد مثلما كانت، وكلما تهامست النساء سراً بين أكشاك السلع أو تنادين في غيابها حول شوك الغابات الذي نبت لها فجأة تحت الوسادة، والسرير، خرجت إليهن صاحبة الصوت الدافيء معنفة : لولا “نادا” لبقي الشوك تحت وسائد المدينة بأكملها، هل نسيتن؟!
لوحة “السيدة في يوم عاصف” لم يقو على تفسيرها أحد، حتى وهي تثرثر، حتى إنطفأت على سطحها تلك الابتسامة تماماً، واستحالت نظرة المرأة فيها إلى رحيل. عند محطة العربات وسط المدينة، ودعتّها صاحبة الصوت الدافيء، وهي تهمس لها بحرقة: هل تستحق منكِ اللوحة كل هذا؟
– بل صاحب اللوحة، ردّت “نادا” بانكسار… ثم أردفت، بأن البقاء في “فينيسيا” قد يضطرها لبيع كل ما تبقى لديها من مقتنيات حجرتها، لاحقا، فمدخراتها المالية كانت قليلة وقد انفقتها في التحضير للسفر، ثم فوضتها بتوسل أن تفعل ما تراه مناسبا لأجلها.
ولم تعد “نادا”، غابت طويلا عن جسور “نهر السين” وأزقة باريس، وغابة “بولونيا” حتى نسي الجميع حكاية اللوحة، وشرائط القماش المعقودة على جسر ” بونتديزارت”… إلى أن جاء ذلك اليوم، حين استعدن حضورها – النسوة – ببعض الشّك أول الأمر، ثم ببالغ القلق لاحقا، ثم بشيء من التأكيد، وبأنها قد عادت لتزرع الشّوك من جديد في بيوتهن وتحت وسائد النوم، صاحت إحداهن من أمام كشك بيع النبيذ في الصديقة الوحيدة لنادا بعد أن لمحتها بين حبال الغسيل المثقلة بالملابس فوق سطح المركب العائم: انتِ وحدك من تعرف بعودتها وتخفي علينا الأمر، تبعتها أخرى من أمام كشك المستلزمات المنزلية والذي يستند إلى جذع صفصافة عالية: هل تؤرقها العتمة إلى هذا الحد، أم أن السكينة التي جلبها الأمان إلى بيوتنا تستفزها، أتراها تتمنى لنا ذات المصير الذي آلت إليه؟ لم تجب الصديقة، وظلّت حائرة، حتى تفرّقن من أمامها على الضفة المقابلة وقصدن الجسر، رأيتُ كل واحدة منهن وهي تتفقد وشاحها المعقود على السياج، وإحداهن وهي تعقد وشاحها من جديد وتتمنى أمام الأخريات بأن تعدل “نادا” عن أفعالها الخبيثة بفك عُراه ليلا، أو نزعه مثلما فعلت مؤخرا بأوشحة الجميع، فهو نذير شؤم. لم تلبث المصابيح أن عادت بوهجها الباهت لتقارع العتمة ليلا على ضفاف “نهر السين”، وتشعل آفة السهر من جديد، بدأ اشتعالها في الأكواخ العائمة على قوارب غسل الملابس وأكشاك السلع المتناثرة، ثم سلسلة المنازل المطلّة هناك، مما حدا ببائعة وجبات الشوفان في إحدى الامسيات لأن تجمع أطباق الطعام بلا استئذان من أمام الزبائن، وأن تغلق كشك الوجبات السريعة باكرا، وتتجه ليلا نحو الجسر برفقة زوجها، لتعمد إلى تنفيذ فكرة بديلة هبطت عليها فجأة …
كانت “نادا” قد غادرت الجسر قبل حضورهن تلك الليلة بقليل ، ولما لم أجد تفسيرا لكل ما حدث، فقد تسللتُ عبر عارضة الخشب نحو قارب المرأة الوحيدة، وحين رأتني تسمّرَت مذعورة بين الحبال، همَسَتْ بصوت خنقته المفاجأة: من أنتَ؟ أجبتها بأن هذا ليس مهما، لكنني صادفت “نادا” هذا المساء فوق الجسر، وبأنها قد تحدّثت إليّ هناك، أفضيتُ لها بما رأيت وسمعت، ورجوتها أن تطلعني على الحقيقة، استحال ذعرها إلى غضب عارم، صرخت في وجهي : أنا لا أعرف من تكون أيها السيد، ولكنك لا تختلف بهذا الجنون عن الأخريات …! “نادا” منذ لحظة وصولها إلى “فينيسيا” ولقائها بــ” توماس”، ورؤيتها للوحة السيدة وقد خلت منها تماما، لتحل مكانها إبتسامة غريبة، لفتاة أخرى… لم تحتمل وقضت على الفور!
اللوحة التي غادرتها السيدة مرغمة في ذلك اليوم العاصف… استقرت على جدار جانبي لمعهد الفنون، بنظرة متكلفة وشرود مفتعل لإمرأة أخرى غير “نادا”، وكلما أستوقفتني، عند أول الرواق، أحدّق فيها، فتروي لي شيئا: أفضت لي ذلك النهار بأن “نادا” لم تمت، إلا حين رأت بائعة الشوفان برفقة زوجها، وهي تستبدل وشاحها بقفل معدني في السياج، توصده بتشف وكأنها تثأر من كل شيء، ثم تلقي بمفتاحه نحو النهر، وتمضي بارتياح. في كل ليلة كانت “نادا” تترك لهنّ أثرا على كل قفل بعد أن يعتريها اليأس من إنتزاعه، كحفنة من رماد أو لطخة من طين أسود، يجدنها مع كل صباح، أما أنا فلم أر شيئا من هذا، ولا يسعني إلا أن اصدّق ما تقوله اللوحة على الجدار، فمنذ أن غادرتها “نادا” وهي تذرع الجسر في كل ليلة، لتظل على إنتظارها الأبدي، تعبر غير مبالية بكل ما تراه من أقفال، فقط هي تبحث عن شيء يخصها، عن وشاح عقدته هناك برفقة من تحب ومنذ زمن بعيد، تتحسسه وهي تهمس في أذن الريح: مادام هذا الوشاح هنا فلا بأس، فسوف يرجع، حتما سيرجع. ثم تمضي بارتياح عميق مثل الأخريات.
===============
*قاص من الأردن