نوكيا :مقاربة المصير، بأدوات عبثية


* جلال برجس



أراد باسم سليمان في روايته (نوكيا)، والتي تحمل نفس اسم الماركة التجارية الشهيرة، للهاتف النقال nokia ، أن يقترب من الواقع، ويعاينه بآخر ما أهدته العولمة، التي برأيي مثلما جعلت العالم قرية واحدة، وجسرت المسافات، أيضاً شيأت الإنسان، وألقت به في دائرة لا يمكن مغادرتها إلا بأدواته الإنسانية، التي أخذت تدخل هي الأخرى في دائرة الخطر. فقد أصبح العالم افتراضياً، يولد حب من نوع جديد، لقاءات حميمية، مضاجعات افتراضية، وولادات يتكفل بها سرير الكتروني، وحاضنة حاسوبية. إنها السخرية الموجعة، ووجع الواقع الذي ما عاد يمكن التغاضي عنه.
وبما أن العنوان عتبة أولى لأي نص أدبي، فإن عنوان هذه الرواية، يبشر منذ البوح الأول في النص الروائي، بواقع مأزوم، بل يشير إلى سخرية مرة، لما آل إليه الإنسان العربي، الذي ما يزال يحلم بما تجاوز الآخرون التفكير به، إذ يبدو منهمكاً بما سوف يعطله عن اللحاق بالركب الكوني، وبما سوف يقصي أي أمل بتجسير الهوة ما بيننا وما بين الآخر الذي يعيش الآن، في سياق إنساني، أتى كنتاج، لفعل أقصى ما يمكن أن يعطل حياته، وانهمك بما سوف يأخذه إلى مداراة جديدة. 
وفي ذات السياق، وبما أن الرواية تعاين واقعاً مهشماً ومشظى، بفعل أسباب كثيرة أهمها ثقافة الأبوية التي لم تنسحب على سلطة رب الأسرة فقط، إنما امتدت إلى السلطة السياسية والدينية، لنحظى بتطبيق خاطئ، لمقولة (هيغل) (الدولة امتداد للأسرة) هذا الثالوث الذي أتت جل أزماتنا نتيجة التعاطي الخاطئ معه. ذلك التشظي، هو الآخر انسحب على الرواية، التي غايرت الرواية المحفوظية بكل مرتكزاتها وشروطها، بل أنها اعتمدت ثلاث شخصيات ( محمود وداني وباسم) إن لم يتقصدها باسم سليمان، فقد تقصدها عقله الباطن.
لم تعاين (نوكيا)، موضعا كبيراً، على غرار الأنساق الروائية العربية الكلاسيكية، التي كانت فيما مضى لا تقترب إلا من مواضيع كبرى مباشرَة، كالحروب، والكوارث السياسية، بل عاينت جانبا هامشياً يتقاطع مع نبض أي شارع عربي. وهذه نقطة تحسب لباسم سليمان في روايته هذه، رغم اقتراب الكثير من الروائيين الجدد من هذا الجانب الهامشي، إذ لا يمكنا أن نعاين واقعاً مشظى، ومأزوماً ببناء روائي كلاسيكي منظم، فيحدث التناقض. إذ أن رمزية البناء الروائي هنا بوعي اللاوعي، وبالتداعي الذي يأخذ مساحة ليست هينة من الرواية، هو انعكاس لمحمول الفكرة، التي ذهب سليمان إثرها لكتابة روايته. إذ بنى باسم سليمان روايته على ثلاثة عناصر ( الشخصيات الثلاث، و النص المشظى، و التداعي الحر المتبدي في مونولوج الشخصيات) لذلك لم يكن الراوي في هذه العمل الروائي، هو الراوي العليم، فهكذا تكنيك روائي، لا يصلح لهكذا نوع من الروايات. 
وقد يلاحظ القارئ أن كل واحدة من الشخصيات الثلاث، تسير في اتجاه مختلف، رغم الرابط الخفي الذي يجمعهما. و بالإضافة إلى أنها شخصيات مأزومة، أيضاً تصبح معادلاً موضوعيا لفكرة التشظي التي بنيت عليها الرواية. 
تتطرق الرواية لحياة ثلاثة أصدقاء ( داني ومحمود وباسم) كل واحد منهم يحلم بمسار مختلف عن الآخر، ولو أن اثنان منهم ( داني ومحمود) حظيا بفرصة الهجرة خارج البلاد. تختلف مصائرها و تتقاطع بنفس اللحظة، ابتداء من إشكالية العلاقة بالمرأة، وفرصة العمل، والتوق للاستقرار خارج السلطة الأبوية بكافة أشكالها. يغادر داني البلاد، وتقتصر علاقته بمسقط رأسه، وبمن كانوا حوله، باتصالات هاتفية قليلة. و يهاجر محمود بطريقة غير شرعية، ويموت عبر تلك المغامرة، ويبقى باسم يصارع الذكريات، خاصة مع تركة صديقه محمود الذي كان يحلم بكتابة رواية، ويحلم بالعيش مع حبيبته التي نشأت بينها وبين باسم علاقة أسفرت عن الزواج.
تؤول كثير من مصائر الشخصيات الفرعية والرئيسية إلى الموت، سواء كان الموت المعنوي أم الموت المادي، ليجد القارئ في هذه المساحة من الرواية، فسحة للإسقاط على اليومي المعاش، بطريقة ليست مباشرة. فالتوق الشديد للتخلص من السلطة الأبوية معادل موضوعي لتجاوز أزمات السلطات الثلاث، في ظل تردي في كافة الصعد، انعكس على واقع الشخصيات وباتت مأزومة، تواجه الحرمان في الجنس، والحرية، وفرصة العيش المناسبة. 
ولكي تكتمل الرواية، أتت اللغة هنا، في جانب منها عبثية، اعترتها سخرية موجعة، مردها مرارة الواقع وما آل إليه، فاللغة هنا بعبثيتها، متوافقة مع فكرة الرواية، ومدلولاتها وما تذهب إليه. فباسم سليمان شاعر قبل أن يكون قاصاً وروائياً، إذ انسحبت رؤاه الشعرية، على بوحه السردي الذي تمخض في روايته (نوكيا)، لكنه انسحاب حمل على كاهله خطاب الروائي والراوي المعرفي. إذ تقوم الرواية على خطاب معرفي ينظر إلى التراث بعين العاتب، الذي آمن بكثير من المقولات والطروحات والمنجزات التي أصبحت هذه الأيام قابلة للتفكيك وبالتالي اقتفاء أثر الهفوات والأخطاء فيها، وعلاقتها بأزمة الواقع العربي، وعلاقته بالآخر. 
ينهي باسم سليمان روايته بقصة له، منشورة في الصحيفة سابقاً، بعنوان (عائلة سعيداً جداً) وهنا يأتي التدخل ما بين باسم الروائي وباسم السارد، في لعبة روائية ذكية، تعيد الأمور إلى نصابها، بحيث تصبح الرواية الحديثة بياناً يتطرق إلى حقيقة الواقع. 
تلك القصة التي تتطرق إلى فيلم يجري تمثيله، وتظهر شخصية المخرج ووعيه النفسي بما يجري، إلى جانب شخصية الممثل الذي يختصر كل الشخصيات ووعيها ، بالإضافة إلى رجلين يلبسان ملابس رسمية ويهبطان من سيارة شرطة. كل تلك الشخصيات التي تبني الحدث، حدث النهاية، أتت كأهم عنصر تكشف النقاب عن المقولة الرئيسية في الرواية. فحين يأتي باسم سليمان على ذكر احتراق (مبنى الدولة)، فإن ذلك يشي برؤية الجيل الجديد من الروائيين الذي يذهبون بأحلامهم إلى قارب يتجاوز الواقع المشظى، بل حتى المحترق، ويأملون بواقع يتجاوز خطورة الواقع وما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
ففي النهاية، نهاية الرواية، عبر قصة ( عائلة سعيدة جداً) يمكن للقارئ أن يصل إلى ما رمى إليه باسم سليمان في روايته (نوكيا)، فليس مصادفة روائية، أن يتم إنهاء الرواية بقصة تتحدث عن فيلم، تجتمع به كثير من العناصر، ( الدولة، الرفض، دور الدوبلير، دور المخرج، المحتجون، الأطفال، اللغة العبثية، المراحل الفاصلة مثل مقولة ما بعد الحريق وما قبله) . إنها نهاية رمزية، لكنها تصلح لرواية مثل هذه، فضلت أن تذهب إلى عقر الأزمة بكل عناصر العبثية.


* شاعر وروائي أردني

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *