*إبراهيم اليوسف
استطاعت وسائل الاتصال ما بعد الحداثية أن تختصر المسافة بين النص – المتلقي، لنكون أمام المواجهة المتواصلة، والتحدي بأعلى الوتائر، مادام مجرد النقر على أيقونة “الإنتر” في لوحة مفاتيح الكمبيوتر، بعيد إنجازه يسقط نسب النص الشخصي، ويغدو من ضمن دائرة الملك العام، مشاعاً، يكاد لا يحيل إلى المصدر، وإن كان الناص مسؤولاً أمامه، من حيث درجة نضوجه، وإبداعيته، مادام يغدو في دائرة التفاعل في إمبراطورية التواصل الاجتماعي، ويظل له صوت واحد – فحسب – عبر مقدرة المرافعة عن نصه، عن بعد، أوعن قرب، لا فرق، بالدرجة نفسها التي يستطيع المتلقي ذاته التفاعل مع النص، تلقياً، أو كتابة ثانية، حيث تغدو المسؤولية – هنا – مشتركة، بين كتبة النص، عبر أحد أشكال الاستقبال المتدرجة بين أقاصي الرفض وأقاصي القبول، أو الاستحسان .
لابد – هنا – أن نحدد أن النص الفيسبوكي الذي نتحدث عنه، هو النص الإبداعي، بل هو النص الذي يمتلك شرط شعريته، هذه الشعرية المتولدة، من خلال جملة أدواته، على صعيد اللغة، أو علاقة المفردة بالأخرى ضمن الجملة، أو على صعيد الرؤيا، أو المضمون، أو على صعيد الصور، أو الإيقاع . . إلخ، رغم أن كل هذه الأدوات المذكورة متداخلة في النص الجديد، ومن بينه النص الفيسبوكي إلى الدرجة التي لا يمكنه فيها تجزيؤها، إلا لداع تشريحي، مجازي، كما نفعل الآن .
والكتابة النصية الأولى، في هذا المقام، تعود إلى الناص، كمقترح أول، وذلك لأن ما يكتبه إنما هو نتاج رؤى ذاتية، تتعالق فيها نصوص أخرى، سابقة، شعرية، أو غير شعرية، عبر عملية المثاقفة، أو التجربة، ويتعدى دوره صياغة الاقتراح الأول، من خلال ما يحققه من تجاوز جزئي للذات، وللآخر،إبداعياً، وتقل درجة حضوره، كلما كان حضور الآخر فيه عبئاً على الخصوصية، وعلى هذا الأساس، فإنه من خلال متابعة تاريخ ولادة الفيس بوك، ضمن شبكة التواصل الاجتماعي، أو عبر استقراء “بروفايله” الشخصي، فإننا نستطيع أن ننسب – في حدود متابعاتنا الشخصية أو العامة – بعض النصوص، لمقترحيها الأوائل، وإن كان حضور الآخرين لا بدّ منه، عبر أكثر من شكل، قبل الاقتراح، أو بعده .
إن هذه النصوص التي تحيل ضمن هيولى شبكة التواصل إلى مجرد أسماء معينة، فإنها تقدم “السجل الإبداعي” لذاتها، وهو ما نقوله عنه – أي السجل الإبداعي – كمرادف للسجل المدني، وكمصطلح يدل على تاريخ ولادة، وملامح، وخصوصية للنص، وهي مرتبة لافتة بالنسبة إلى المدون في هذه الحال، وإن كنا نجد – في المقابل – تراكماً هائلاً لهاتيك المدونات التي قد تقدم دلالاتها، معرفياً، بيد أنها لا تحقق نصيتها الشعرية .
البوست عالم لا متناه، يندرج ضمن إطاره كل ما هو مدون، من دون أي شرط، بحيث يستطيع أي “فيسبوكي” أن يدون ما يرتئيه، بدءاً من الإعلان الشخصي، أو الطرفة، أو الموقف السياسي . . إلخ، كما يستطيع الشاعر أن يجد فيه وسيلة تعبيرية، كما القاص، كما الروائي، كما الناقد، وإن كانت هناك شروط نشر “فيسبوكية” باتت تتأسس، أي أن هناك شروط المشاركة في هذا العالم، وأخلاقيات المشاركة، رغم حالات المروق الهائلة على كل شرط، وربما أن حالات المروق تكاد تكون الملازم لعالم النشر الفيسبوكي، وكتحد لشروط النشر التقليدية، هذه الشروط التي يتم كسرها، وانتهاكها، والتمرد عليها، وولادة حالة جديدة، هي أول مغامرة عبر تاريخ الكتابة – طراً – إلى درجة أن كل منتم إلى هذا العالم الافتراضي صار في مكنته أن يغد مدوناً، أو كاتباً – بمعنى أو بآخر – إلى درجة اللبس، المفزعة، لقواعد الكتابة، بحيث بتنا نجد خلخلة كبرى، صارت تؤدي إلى التهديد بانهيار سطوة الكتابة، لاسيما في ظل غياب النواميس، وآلة النقد، أو الفرز بين غث المدون وسمينه .
إذاً، المدون الفيسبوكي – شكلاً تدوينياً افتراضياً – لا هوية له، هو الكتابة كلها، بل هو اللاكتابة والكتابة في آن، هو النص محققاً الشرط التجنيسي، ومفتقده، ولهذا فإن مهمة تقويم النص باتت محفوفة بمصاعب كثيرة، وإن كان الناقد التقليدي، غير مطالب إلا بتناول ذلك النص الذي يدخل ضمن إطار تخصصه، لينظر فيه، جمالياً ورؤيوياً معترفين بأن هذا الفلتان أو الاستسهال التدويني في هذا الفضاء، بات خطراً مهدداً للذائقة والإبداع، بل ولمستقبل الكتابة، على ضوء مفهومها المتعارف عليه الآن .
إذاً، هل نحن في حضرة انقلاب مفاهيمي، نقدي، آخر، وهو موت “موت المؤلف” وولادة مؤلف آخر، استطاع بعد أن أصبح العالم “كارت كف” أن يتناول “عشبة الخلود” التي لما يزل أنكيدو يبحث عنها من دون جدوى، بعد أن حصل على نصف ما تمناه، وهو خلود الاسم، أو النص، مقابل حضوره، أو خلوده الرمزي، لقاء ذلك، حيث بات الناص الافتراضي قادراً شرط استمرار تدفق المحيط الإلكتروني، أن يمنح روحه كيمياء التجدد، كما يمنح نصه ذلك السحر الخاص، إذ إن غيابه الفيزيولوجي سيوقف إضافاته على متن النص، بيد أن غيابه في ساعة القراءة، لم يعد ذلك المعوق الكبير، والحائل، بينه وبين جمهرات المتفاعلين مع نصه .
من بين التكسير المفهومي لبنية النقدين التقليدي، والحديث، وما بعد الحديث، أن الفارق بين زمن النص، وزمن القراءة، يكاد يتلاشى تدريجياً، حيث يمكن الناص أن يكون من عداد أول متلقي نصه، مشاركة، ناهيك بأنه قادر على تعديل النص، وإن كان من بين خصائص النص الإلكتروني عرض التعديل، أو سلسلة التعديلات، وجعلها في متناول المتلقي، ليكون على معرفة، بحالات الناص، في كل مرة .
_______
*الخليج الثقافي