نجوى الزهار*
في زمن ما في مكان ما في لحظة ما …. كان هنالك انسان ما ولنا ما نشاء في اطلاق الأوصاف والعلامات عنه .
لعله كان ملكا أو لعله اميرة ، لعله كان بحارا ولعله …. ولعله ولعله
كان هذا الانسان يبحث في اعماق البحار واعالي الجبال
عن ذاك الذي يتفاعل وينصهر ويتماسك في ساحات روحه
في تلك الساحات ، هنالك أسدان متجاوران في المكان والزمان ، ولكنهما بعيدان كل البعد في السلوك والشخصية .
هذا الذي يجري في دهاليز عقله ، يجعل أحلامه بلا لون ولا طعم ماضية الى طريق لا يعرف مساره .
يصحو يوما على طريق المحبة يذوب في أعماقه ، فيرى الكون جميلا ، يشعر تجليات الحنو والحب فيغدو طائرا مغردا من جديد ، يشرب ماء البحر فيتذوق ملوحته عسلا .
يمسك بأمواج البحر فتكتمل عواطفه . ولكن هذا الذي يغمره حبا وعطاء وامتنانا ، ما يلبث أن يتلاشى عبر ثورة الأسد الغاضب . هذا الأسد المتعالي الأناني ينهش في كل معاني العطاء والخير لديه ، فيتمركز على ذاته ، لكي لا يرى ، لا يشعر ، لا يسمع الا مصلحته الذاتية .
عاش يوما ، عاش دهرا ، عاش سنة لا أحد يدري كيف مرت أيامه في هذا الصراع…. الى أن تزامن زمنه مع زمن محارة شقت قاع البحر ثم استلقت على شواطئه . لامست يداه الحائرة الباحثة الرمال شعر بحرارة الرمال فهدأ قليلا….. ثم اقتربت المحارة أم اقتربت يداه ، لا أحد يدري ليكون اللقاء ما بينهما….. شعر بها شعرت به . فانفلق جدارها وغطاؤها بآن واحد…. لتصافح عيناه تلك اللؤلؤة زهرة الخلود .
تسمرت كلماته في جوفه. لؤلؤة ناصعة براقة ، بدأ بملامستها طبقة وراء طبقة فقادته خطواته نحو داك المكان غير الآمن في روحه .
أغمض العيون ، ليستعين بنور القلب ، ليسمع صوتا هامسا من تلك اللؤلؤة:
اترك البحر أترك الجبل أترك السهل
أترك الزرع أترك الأماني أترك الأشواق
وامش في طريق آخر .
سوف تمشي أيام ، وتركض أياما وتنام أياما الى أن تصادف صحراء ما . في تلك الصحراء ، هنالك حكيم ما . امش ولا تخف .
قاده القلب ثم تتبعته الخطوات الى أن وصل الى ما يشبه غايته .
شرب الماء من طاسة الحكيم . ابتسم الحكيم
لحضوره … مرت أياما أو سنينا ، لكم ما شئتم في العدد والتعداد …..
الحكيم ينهض فجرا … يمشي خارج الخيمة. يمسك بيديه ابريقا فضيا ثم يبدأ بسقاية بعض النباتات …..
ثم يعود للخيمة ليبدأ بغزل الصوف ….
هما في صمت وكلام بآن واحد . ولكن الاستعجال الرغبة في روحه للحصول على الدواء الذي سوف يحسم تلك الحرب الدائرة في ساحات روحه . أيهما المنتصر : الأسد المنتصر ،أهو الأسد المحب أم الأسد الغاضب . وكلما حاول الاقتراب من حافة السؤال ، كان هذا الحكيم يذهب به مذاهب شتى ، الى أن جاء يوما وهو ما يزال نائما ، دعاه لمراقبة النجوم في رقصها وغنائها ، ثم أمسك بالإبريق الفضي وأعطاه اياه . اقترب من النباتات التي بدأت تتسلق ثوب الخيمة بلونها الأخضر……
رأى الجواب سمع الجواب
وضع الابريق جانبا . امتثل لدعوة الحكيم . نظر الحكيم بعينيه بعمق العمق . تبعثرت نظراته ، الى أن تمكنت عيون الحكيم من الامساك به . وكما قيل ” العيون هي بوابة الروح “.
أراد أن يضع تساؤلاته ، حيرته أمام الحكيم . أي من الأسدين سوف ينتصر؟ ولكن الخجل رافقه . فهذه السكينة ، وهذه النجوم ، هذا الليل وهذه الأنوار المشعة المتلألئة من عيون الحكيم . من أين له أن يبوح ؟ من أين له أن يسكب نقطة حبر غامقة في هذا المساء الصافي فيتبعثر الصفاء .
ولكن خوفه صراعه ، تراءى له في عدة صور وتخيلات هذا الأسد المحب ، يقترب منه . يمسك بزهرة ياسمين فواحة ، يقترب منه أكثر ، ويهمس في قلبه : امضي امضي يا صديقي ولا تخف ! .
ليبرز من خلفه ذاك الأسد الغاضب ، مطلقا أصواته العالية ، وضحكات فيها كل الاستهزاء به . ويهمس في عقله : ألم يكن الانتصار دائما من نصيبي ؟ ….
لم يستطع الاستمرار في مرافقة الحكيم . فعالجه الحكيم ، مثل يد أم تضعها على جبين طفلها المشتعل حرارة فتبرد جوارحه ، لكي تبدأ عملية الشفاء في روحه وجسده .
عالجه الحكيم ثم قال : أتظن يا بني أنك المنفرد في حالتك فيما يجول في عقلك ؟ . أجابه : يا أيها الحكيم ! كيف اصبحت حكيما ؟ . أراك أسمعك .
لا حرارة الصحراء تمنعك من السقاية ، لا الزوابع الرملية تأخذ ابتسامتك بعيدا ، لا شيء ، لا شيء يعكرك ….
الحكيم : اننا جميعا يا بني ، نختبر هذا الصراع الذي لديك لأننا معجون من عقاقير شتى وألوان شتى ، تتجول في الروح . اننا مشتركون في هذه الدائرة. ولكن هنيئا لمن استطاع أن يرى مرآة روحه ، وأنت يا بني بمجرد انتباهك لهذين الأسدين قد بدأت السير بطريقك الحق، هذا الطريق لا يكون طريقا الا اذا ما أصبحت عادة فعل الخير عادة متأصلة فيك وليس تكلفا ، تقوم به ولا تدري. لا تنتظر ثوابا أو تقديرا . في هذا الطريق تذوب المسافات ما بينك وبين الكون المحيط بك . كل فرح هو فرحك ، وكل حزن هو حزنك أيضا . هذا الطريق لن يكون طريقا الا اذا أصبحت أو أمسيت اذا ما نظرت تكلمت واذا ما استمعت . لا يكون الا الجمال الذي تحبه هو ما تفعله . عندئذ سوف تحصل على مؤونة ، تتحلى فيها روحك . تتحلى فيها روحك .
استمع يا بني للأسد المحب وللأسد الغاضب ، ولك القرار من أي منهما سوف ترعاه وتخلص له . وعليك بعد أن تطهر ذاتك أن تستمر بالمواصلة ، لا تهدأ ولا تظن بأن هذا الأسد الغاضب لا يمتلك طرقا شتى للعودة . أغلق الأبواب وافتح النوافذ واعمل . بالعمل وحده يتنامى الخير الذي نمتلكه جميعا .حتى هذا الأسد الغاضب سوف يأتي يوما يمل من غضبه وأنانيته ، وأن ثمة صداقة سوف تنمو ما بين هذين الأسدين . وأن هذا الأسد المحب سوف يرعاه بالصبر والتفهم والغفران . ولك دائما وأبدا أن تظل حاضر الذهن .
ارتسمت كلمات الحكيم . نقشت معاني الحكيم فشعر بتلك اللؤلؤة ، تبني طبقاتها ، طبقة وراء طبقة من طبقات حسن النية – الاخلاص – الحياء التواضع – الرضا – المحبة – لتمتلك روحه لؤلؤة القناعة والتسليم .
* كاتبة من الأردن